أنْ يبدأ قادة الدول الأوروبية الرئيسة في انتقاد بعضهم بعضا علانية، بسبب تباين نهج حكوماتهم في معالجة أزمة المهاجرين، علامة أكيدة على أن محاولات الاتحاد الأوروبي لمعالجة هذه الأزمة لا تسير على ما يرام؛ فمنذ أن اجتاح أوروبا طوفان المهاجرين الباحثين عن النجاة من أهوال الصراع السوري في صيف 2015، وقادة الاتحاد الأوروبي يناضلون كي يتفقوا على سياسة مشتركة للتعامل مع الأزمة.
وبينما كانت دول مثل ألمانيا- خاصة أيام كانت المستشارة السابقة أنغيلا ميركل في السلطة- على استعداد لتوفير الملاذ لضحايا الصراع الوحشي في سوريا، بل وللفارين أيضا من مناطق الحرب في دول أخرى كالعراق وأفغانستان وليبيا، فإن دولا أخرى لم تكن شديدة الترحيب بالأمر.
وفي أوروبا الشرقية، يعتقد أن أزمة المهاجرين عززت موقف السياسيين القوميين في كل من بولونيا والمجر، اللتين فرضتا تدابير صارمة على الحدود.
وفي الوقت نفسه، فإن دولا مثل اليونان وإيطاليا، الواقعتين على شواطئ المتوسط، المركز الرئيس لأزمة المهاجرين، وجدتا نفسيها غارقتين في عدد هائل من المهاجرين الباحثين عن ملاذ آمن في أوروبا.
أما الآن، فإن حجم التحدي الذي يواجه الزعماء الأوروبيين أفضى إلى نزاع دبلوماسي جلي بين ألمانيا وإيطاليا، وهما من الأعضاء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، إذ وجدتا نفسيهما على خلاف حول كيفية معالجة أزمة الهجرة.
حكومة ميلوني تصر على أن تدخل العاملين في مجال الأعمال الخيرية يساعد في زيادة تدفق المهاجرين، لأن وجود السفن الخيرية يعني أنه من المرجح أن يتلقى المهاجرون المساعدة إذا صادفتهم مصاعب أثناء العبور.
وقالت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، في رسالة إلى المستشار الألماني أولاف شولتز، إنها "أصيبت بالدهشة" عندما علمت بمبادرة الحكومة الألمانية لتمويل المجموعات الخيرية العاملة على إنقاذ المهاجرين في البحر المتوسط.
وتأتي مداخلتها، التي سُربت إلى وسائل الإعلام الإيطالية، في أعقاب موجة المهاجرين الحالية التي وصلت إيطاليا هذا العام، فقد وصل إلى الشاطئ حتى الآن نحو 133 ألف مهاجر، مقارنة بنحو 69800 مهاجر في الفترة نفسها من عام 2022.
وقد بنت ميلوني أهليتها لقيادة اليمين على اتباعها سياسة متشددة من الهجرة غير الشرعية. وبكلام أدق تركز هدف ميلوني على الحد من أنشطة سفن الإنقاذ الخيرية العاملة في عرض البحر المتوسط.
وفيما تصر المنظمات المسؤولة عن تشغيل السفن على أنها منظمات حيوية توفر الإغاثة الإنسانية الحيوية للمهاجرين، الذين يسعون إلى عبور أحد أكثر المعابر البحرية دموية في العالم. إلا أن حكومة ميلوني تصر هي الأخرى على أن تدخل العاملين في مجال الأعمال الخيرية يساعد في زيادة تدفق المهاجرين، لأن وجود السفن الخيرية يعني أنه من المرجح أن يتلقى المهاجرون المساعدة إذا صادفتهم مصاعب أثناء العبور.
التراشق العلني بين روما وبرلين يفصح عن التوترات العميقة بين دول الاتحاد الأوروبي في قضية المهاجرين، وهي توترات لم تزل قائمة على الرغم من محاولات بروكسل المتكررة لإيجاد أرضية مشتركة لمعالجة المشكلة.
وقد أعربت ميلوني، في رسالتها إلى برلين بتاريخ 23 سبتمبر/أيلول، عن استيائها من رغبة الحكومة الألمانية في تمويل السفن الخيرية العاملة في البحر المتوسط، دون أن تكلف نفسها حتى عناء مناقشة المسألة مع نظيرتها الإيطالية.
وكتبت: "أدهشني أن أعلم أن إدارتكم- ومن دون التنسيق مع الحكومة الإيطالية- قررت تقديم مبلغ معتبر من المال دعما للمنظمات غير الحكومية العاملة في استقبال المهاجرين غير الشرعيين على الأراضي الإيطالية وفي عمليات الإنقاذ في البحر المتوسط".
وأضافت أنه من الأفضل لدول الاتحاد الأوروبي الراغبة في مساعدة إيطاليا في تعاملها مع الهجرة غير النظامية، أن تركز على "الحلول الهيكلية"، بما في فيها العمل مع دول العبور لوقف تدفقات المهاجرين.
في أوروبا الشرقية، يعتقد أن أزمة المهاجرين عززت موقف السياسيين القوميين في كل من بولونيا والمجر، اللتين فرضتا تدابير صارمة على الحدود.
وردت وزارة الخارجية الألمانية بالإصرار على أن الدعم المالي الذي تقدمه برلين للمنظمات غير الحكومية، التي تدير السفن الخيرية "لم يكن مفاجئا لأحد" لأن أمر تمويلها صدّق عليه البرلمان. وأضافت: "أبلغنا شركاءنا الطليان أيضا بهذا الأمر في وقته. وقد استغرق الأمر بعض الوقت حتى انتقينا من بين المنظمات غير الحكومية المختلفة تلك التي تستحق التمويل".
ومن المؤكد أن التراشق العلني بين روما وبرلين يفصح عن التوترات العميقة بين دول الاتحاد الأوروبي في قضية المهاجرين، وهي توترات لم تزل قائمة على الرغم من محاولات بروكسل المتكررة لإيجاد أرضية مشتركة لمعالجة المشكلة.
وزعم وزراء الاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران أنهم توصلوا أخيرا إلى اتفاق على الركائز الأساسية لإصلاح سياسة الهجرة الأوروبية. ومنها إدخال تدابير حدودية إلزامية ومستعجلة لمعالجة قضايا المهاجرين، إضافة لمبدأ "التضامن الإلزامي" بين الدول لتخفيف معاناة البلدان التي تقف على الخط الأول في مواجهة الهجرة غير النظامية.
وقد استمرت المفاوضات سنوات حتى توصلوا إلى هذا الاتفاق، غير أن قدرا كبيرا من الضغط ما زال مطلوبا لكسب الدعم من دول مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان، وهي الدول التي تحملت العبء الأكبر لأنشطة مهربي البشر.
وقد ثبت أن دعم هذه الدول أمر حاسم في توفير الأغلبية المناسبة التي يتطلبها قانون الاتحاد الأوروبي للموافقة على القواعد الجديدة.
ومع ذلك، فإن الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي حول هذه السياسة كانت واضحة، إذ صوتت ضد هذا التشريع كل من بولونيا والمجر، المعارضتين منذ أمد بعيد لسياسة الهجرة التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، بينما امتنعت بلغاريا ومالطا وليتوانيا وسلوفاكيا عن التصويت.
وقد وافق الاتحاد الأوروبي، بمقتضى شروط السياسة الجديدة، على الحد الأدنى لعدد المهاجرين الذين يرحّلون سنويا من دول أعضاء، مثل إيطاليا واليونان، اللتين يدخلهما معظم من يفد إلى الاتحاد الأوروبي، وإعادة توطينهم في دول أعضاء، مثل ألمانيا، الأقل تعرضا لمثل هؤلاء المهاجرين. وقد حددوا العدد بـ30 ألفا، تحت ما يسمى "نموذج المال مقابل المهاجرين"، بينما سيُثبّت الحد الأدنى للمساهمات المالية سنويا بمبلغ 20 ألف يورو لكل عملية ترحيل وإعادة توطين.
ومع ذلك، فإن اختلاف وجهات نظر العواصم الأوروبية الكبرى في التعامل مع المشكلة دفعت ميلوني إلى محاولة صياغة سياسة إيطالية منفصلة في هذه القضية، مع استضافة روما قمة دولية حول الهجرة في شهر يوليو/تموز الماضي شارك فيها زعماء من بعض دول حوض المتوسط والشرق الأوسط، حيث شجعوهم على تطوير تعاون أوثق.
لكن تغيب كل من فرنسا وألمانيا، اللتين انتقدتا بشدة نهج ميلوني المتشدد، يشير إلى أن كثيرا من العمل ما زال بانتظار الزعماء الأوروبيين قبل أن يتمكنوا من الاتفاق على نهج مشترك لمعالجة واحد من أكبر تحديات العصر الحديث.