غزة تُعيد تفعيل "مسيرات العودة"

غزة ليست مُحيدة وخارج الصراع

AFP
AFP
فلسطينيون يستخدمون العبوات الناسفة وسط اشتباكات مع قوات الأمن الإسرائيلية في خان يونس بجنوب قطاع غزة في 27 سبتمبر 2023، في أعقاب احتجاج بالقرب من السياج الحدودي

غزة تُعيد تفعيل "مسيرات العودة"

في منتصف سبتمبر/أيلول الحالي، بدأت مسيرات واحتجاجات شبابية غزية، تخللها إشعال إطارات مطاطية وإلقاء حجارة على جنود الاحتلال الإسرائيلي المتمركزين على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة مع الأراضي المحتلة عام 1948، إلى جانب تفجير بعض عبوات الصوت محلية الصنع، وهو ما أعاد للأذهان أحداث مسيرات العودة الكبرى، التي أقامتها حركة حماس وبتوافق فصائلي نهاية مارس/آذار 2018، واستمرت قرابة عامين.

المسيرات بشكلها الحالي، بدأت بعدما شهدت الحدود بداية الشهر الحالي، عمليات تجهيز وتحضير لمخيمات مسيرات العودة في أربع نقاط حدودية، دون ذكر التفاصيل والأسباب. تبع ذلك السماح لبعض الشبان بالتجمهر والتظاهر قرب الحدود في أيام الجمعة من كل أسبوع ولمدة أسبوعين قبل أن تصبح الاحتجاجات مستمرة بشكل يومي وتتصاعد شيئا فشيئا.

اللافت في تلك الحالة، أن جهاز الضبط الميداني التابع لحركة حماس، والذي من مهمته ضبط حدود القطاع، سمح للشبان بالوجود والوصول للجدار العازل على غير العادة، الأمر الذي دلل على موافقة أو نية حركة حماس والفصائل الفلسطينية بالتصعيد أو التخطيط لعملية ضغط على الاحتلال الإسرائيلي، لهدف لم يُعلن عنه بشكلٍ واضح.

في ذلك الوقت، كان الوسيط القطري موجودا في قطاع غزة، واجتمع مع قيادات لحركة حماس، وتبع ذلك اجتماعات مكوكية طيلة يومين بين الحركة والجانب الإسرائيلي بشكلٍ منفصل، ما يعني أن هناك مفاوضات حول أمرٍ ما، لكنه لم يتوصل إلى نتيجة وأبلغ الوسيط القطري الطرفين بمغادرته للقطاع مع الفريق المرافق له دون التوصل لنتيجة يمكن أن تمنع ما هو قادم من تصعيد على الأرض.

بعد تأخر المجتمع الدولي عن عمليات إعادة الإعمار، ودعم وتطوير البنى التحتية للقطاع، لذلك فإن المقاومة تبذل ما تستطيعه، لتجنب أي معارك لن تقود إلى معركة تحرر وطني

ويقول الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني طلال عوكل، إن جوهر الفكرة من مسيرات العودة الكبرى عام 2018، كان يؤسس لربط قطاع غزة المنفصل جغرافيا عن الضفة الغربية والقدس، وأن غزة ليست مُحيدة وخارج الصراع بل هي في قلب الصراع الدائر في المناطق الفلسطينية الأخرى، كما يريد الاحتلال الإسرائيلي تحقيقه من عمليات فصل واعتبار غزة كيانا معاديا خارجيا.

AFP
عمال فلسطينيون يتجمعون عند معبر إيريز بين إسرائيل وشمال قطاع غزة، في 28 سبتمبر، 2023، بعد أن أعادت السلطات الإسرائيلية فتح المعبر

ويرى أن الاحتجاجات وبعد عامين من استمرارها، استنفدت أهميتها بسبب طول الفترة، وارتفاع عدد الجرحى والقتلى، حيث وصل عدد قتلى مسيرات العودة الكبرى التي استمرت 21 شهرا، إلى 215 قتيلا، بينهم أطفال، وإصابة 19 ألفا آخرين، منهم العشرات بُترت أطرافهم بسبب استخدام جنود الاحتلال الرصاص الحي والمتفجر. ويقول: "الرسالة وصلت، وحققت بعض الأشياء مثل تدخل قطر، وبعض التسهيلات والأموال والمنحة القطرية، وهذا هدف ثانوي حقق شيئا ما".

 

وبالعودة إلى تصاعد وتيرة الاحتجاجات الحدودية الحالية، فقد انتقلت من عمل أسبوعي، إلى عمل يومي منتصف الشهر الحالي، ليتخذ الاحتلال الإسرائيلي قرارا بإغلاق معبر بيت حانون "إيرز" أمام عمال غزة، البالغ عددهم أكثر من 18 ألف عامل، لمدة 24 ساعة، تبعها إعلان في اليوم التالي بإغلاقه أمام العمال حتى إشعار آخر، كوسيلة ضغط على حماس لإنهاء ما يجري على الحدود، لكن ذلك فاقم من الأمر.

لم تتوقف المواجهات، بل زادت من وتيرتها، وتخللها بعض محاولات إطلاق نار على الجنود من أسلحة بسيطة، وإطلاق بالونات تحمل مواد حارقة باتجاه الحقول الزراعية في المستوطنات المحاذية للقطاع، فيما كثف الاحتلال من عمليات استخدام الرصاص باتجاه المتظاهرين، وقنابل الغاز بين المتظاهرين، بالإضافة إلى قصف واستهداف مراصد لجهاز الضبط الميداني وحماس على الحدود، وهو ما تسبب في إصابة وقتل عدد من الشُبان الغزيين.

المقاومة في غزة تتجنب الدخول في معركة عسكرية، وتفضل العمل الشعبي حاليا، لكن هذا قد يتغير، خاصة مع تصاعد قواعد إطلاق النار التي يتبعها جيش الاحتلال، والتي أدت إلى إصابة كثير من الشباب الغزي، وبعضهم تعرض لبتر في الأطراف

في أغسطس/آب الماضي، أطلق الاحتلال الإسرائيلي عشرات من التصريحات والتهديدات ضد قادة المقاومة الفلسطينية، وبالتحديد قادة حركة حماس. ولمح في عدة تصريحات إلى إمكانية العودة لسياسة الاغتيالات لقادة حماس، حتى وصلت التكهنات الإعلامية لتوقع من الفريسة التي يبحث عنها الاحتلال، وهل هي في غزة أم الضفة أم في الخارج؟ هذا بالإضافة إلى تصريحاتها وتهديداتها حول قدرتها على خوض حرب شاملة وعلى عدة جبهات في الوقت ذاته.

Reuters
دبابة إسرائيلية تتمركز قرب الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة خلال مواجهات بين متظاهرين فلسطينيين وجنود إسرائيليين

ويربط عوكل الأحداث الحالية بالأجواء المشحونة ومشهد الصراع، الذي ضخمت منه الحكومة الإسرائيلية من خلال تهديداتها، والتي وصفها بالمتبجحة، في الوقت الذي يعاني فيه الاحتلال من ضعف جبهته الداخلية بسبب الاحتجاجات الداخلية في تل أبيب منذ عدة أشهر، بالإضافة إلى ضعف تركيبة الحكومة الإسرائيلية والخلافات بين وزرائها والمعارضة، ويقول: "أزمتها عميقة وبالتالي هي في حالة ضعف، لكن لا يعني ذلك أنها لا تمتلك قدرات تدميرية، على العكس هي تمتلك القدرات العسكرية التدميرية، لكن من يخوض هكذا حرب وجبهته الداخلية ضعيفة لن يتمكن من حمايتها".

لذلك، يعتقد الكاتب والمحلل السياسي أن حماس والفصائل الفلسطينية قابلت التهديدات الإسرائيلية برسالة تحدٍ، وأن عودة المسيرات على حدود قطاع غزة، وتصاعد وتيرتها، هي عملية استكمال لرسالة التحدي للاحتلال الإسرائيلي وحكومته، خاصة بعدما تحولت التهديدات الإسرائيلية مؤخرا إلى "الخشية من إطلاق حماس والفصائل صواريخ من غزة".

خيارات المقاومة

يتابع الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني حسام الدجني، مع سابقه، تفسير الواقع الحالي، ويشير إلى الخيارات المتاحة أمام المقاومة الفلسطينية في ظل حالة التهديدات والتضييقات الإسرائيلية، واستمرار الحصار المفروض على القطاع منذ قرابة 16 عاما، ويقول: "المقاومة الفلسطينية أمام خيارات، إما المقاومة العسكرية، وإما المقاومة الشعبية".

وحول الخيار الأول، أي المقاومة العسكرية، وبحسب التجارب التي خاضتها المقاومة الفلسطينية خلال الأعوام الأخيرة، من حروب وعدوانات إسرائيلية شرسة، في ظل واقع اقتصادي واجتماعي متردٍ يعيشه أكثر من مليوني غزي، يقول: "ستكون له أضرار كبيرة على واقع قطاع غزة، وهذا خيار تحاول المقاومة استبعاده، بعد تأخر المجتمع الدولي عن عمليات إعادة الإعمار، ودعم وتطوير البنى التحتية للقطاع، لذلك فإن المقاومة تبذل ما تستطيعه، لتجنب أي معارك لن تقود إلى معركة تحرر وطني".

ويرى الدجني، أن الخيار الثاني، المقاومة والمسيرات الشعبية، هو الخيار المتوافق عليه بشكلٍ أكبر بين الفصائل الفلسطينية، وربما يكون الخيار الأهم والأكثر منطقية، في الوقت الذي تستمر فيه عمليات بناء المستوطنات وتوسعها، وعمليات الاقتحامات والاعتقالات في المدن والمخيمات في الضفة الغربية، وعمليات تهويد المسجد الأقصى بالقدس، إلى جانب الحصار وعمليات التضييق الاقتصادي على قطاع غزة، وفق ما يقول.

لماذا الآن؟

يعتقد الكاتب والمحلل الدجني، أنه وبعد مرور عدة سنوات على التفاهمات بين حماس وإسرائيل بوساطة قطرية مصرية أواخر عام 2019 والتي أنهت حالة الاحتجاجات والمسيرات على حدود القطاع في حينها، أصبحت بحاجة إلى تطوير وتعزيز، بسبب النمو الديموغرافي المتسارع، وتزايد حالات الهجرة التي أصبحت مُقلقة بالنسبة لحركة حماس التي تحكم القطاع منذ عام 2007.

ويقول: "مطلوب أن تكون هناك تنمية مستدامة حقيقية، وفتح للمعابر بشكل أكبر وأوسع، وأن يكون هناك إدخال عدد أكبر للعمال، وزيادة أكبر للمنح المالية، والتي تستفيد منها شريحة واسعة من الموظفين الذين يقدمون خدمات إنسانية مثل التعليم والصحة والدفاع المدني وغيرها".

صحيح أن المقاومة في غزة تتجنب الدخول في معركة عسكرية، وتفضل العمل الشعبي حاليا، كما أشار الدجني، لكن هذا قد يتغير، خاصة مع تصاعد قواعد إطلاق النار التي يتبعها جيش الاحتلال، والتي أدت إلى إصابة كثير من الشباب الغزي، وبعضهم تعرض لبتر في الأطراف.

في أغسطس/آب الماضي، أطلق الاحتلال الإسرائيلي عشرات من التصريحات والتهديدات ضد قادة المقاومة الفلسطينية، وبالتحديد قادة حركة حماس. ولمح في عدة تصريحات إلى إمكانية العودة لسياسة الاغتيالات لقادة حماس

لذلك يجب على المجتمع الدولي أن يضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف ما يجري في الضفة والقدس، ولتوفير مشاريع تنمية مستدامة في غزة، بحسب ما يقول الدجني الذي يضيف: "يجب إعادة المنحة القطرية للموظفين الحكوميين بغزة كما كانت، لا بل زيادة المنحة للموظفين، والتفكير في إنشاء مشاريع ذات علاقة بالتنمية المستدامة".

منذ بداية عملية تحضير مخيمات مسيرات العودة شرقي القطاع، وحتى بداية الاحتجاجات والتي تستمر في أسبوعها الثاني على التوالي، خرجت أصوات رافضة وبعضها هاجمت حركة حماس بشكلٍ محدد، بسبب عشرات من حالات البتر للأطراف التي خلفتها المسيرات سابقا، والذين فقدوا أطرافهم ومستقبلهم، حتى إن بعضهم فقد مصدر رزقه وعمله، فيما يعاني آخرون من مشاكل نفسية حتى وقتنا الحالي.

الأمر الذي أدى لتفسير ذلك بتراجع مؤيدي المقاومة من الفلسطينيين، من قبل بعض الآراء الشابة والكُتاب، لكن الدجني يخالف ذلك التفسير، ويقول: "على العكس تماما، المقاومة شعبيتها وحاضنتها ما زالت كبيرة، ليس لأنها مُبدعة بقدر ما إن انسداد الأفق السياسي، أعطى نتيجة للمجتمع الفلسطيني بأن الاحتلال لا يمكن أن يمنحنا شيئا بعد مرور 30 عاما على اتفاقية أوسلو إلا بالمقاومة".

أما الكاتب عوكل، فيعتقد أنه من حق المواطنين تسجيل انتقاداتهم وملاحظاتهم للاحتجاجات الحدودية، ولكن حركة حماس كفصيل حاكم يمتلك أدوات المقاومة الأكبر والأكثر تأثيرا بين الفصائل، لديه حسابات استراتيجية مختلفة، وهو ما يدخلها في اختلافات مع بعض الفصائل الفلسطينية في بعض الأحيان، وحتى حول المسيرات والاحتجاجات الحدودية الأخيرة، ويقول: "لكل شيء ثمن، وفي اعتقادي حماس أصبحت أكثر خبرة من السابق في إدارة الأمور".

font change

مقالات ذات صلة