في نصوص نيتشه حديث كثير عن التجوال، عن النسور التي لا تحط إلا على قمم الجبال، تلك الكائنات العجيبة التي لا شك أنها تشعر بعميق الغربة والوحدة في ذلك السمو، حيث لا يسمع أحد صراخها. بالنسبة إلى نيتشه، هذه القمم ليست الوجهة، إنه يريد منا أن نكون متجولين، لكن ليس إلى محطة نهائية أو غاية، بحيث لا نحط رحالنا في أي مكان، فتلك الوجهة غير موجودة، أصلاً. هذا لا يعني أنه ينهى الناس عن تحديد الأهداف ورسم الخطط، بل على العكس تماماً. هو يوصيك قائلاً: "حدد لنفسك أهدافاً، أهدافاً عالية ونبيلة، ثم اهلِك نفسك في السعي وراءها". لكن، إذا وصلت إلى وجهة نهائية، فهذه علامة على أن نظرتك كانت منخفضة جداً، وأن هدفك ليس عالياً ولا نبيلاً بدرجة كافية. المطالب العالية هي للنسور العظيمة من أمثال نيتشه، وليست لمن يرغبون في تحقيق مطلب وهميّ ساذج لن يتحقق أبداً، اسمه السعادة. أولئك بالنسبة إلى نيتشه هم "الفائضون على الحاجة"، وصف ساخر للغاية وظريف. نعم، نيتشه يمكن أن يتحوّل إلى كوميديان حقيقي عندما يرغب في ذلك، شخصية أخرى تتناقض مع الصورة المشهورة عنه.
مع تجوال الأقدام تتجول في ذهنك الأفكار، فهذه الرياضة التي تساعد في الحفاظ على الصحة، هي أيضاً مساحة لاكتشاف الذات. هذا المسلك يخالف وصايا الرهبان الطيبين في الطاوية والزن اللتين تعتقدان أن الذهن هو سبب كل المشكلات، وتريدان أن تضماك إلى الصدور بأيدٍ من حرير، بحيث تعيش إلى الأبد في اللحظة العابرة من دون تفكير، كأنما أنت طفل في حضن أم. هناك لن تشعر بألم قط، كما أنك لن تعرف أي شيء على الإطلاق.
عندما تختار الحقيقة على السعادة، وتسعى إلى أن تكتشف نفسك لتكون نفسك، ففي الغالب ستجد أن هذا المسعى سيقودك، بدلاً من ذلك، إلى اكتشاف ما تعتقد أنه نفسك وهو ليس كذلك. أي أن معرفة الذات تكون بالسلب لا بالإيجاب.
لكن الأمر يختلف، عندما تختار الحقيقة على السعادة، وتسعى إلى أن تكتشف نفسك لتكون نفسك، ففي الغالب ستجد أن هذا المسعى سيقودك، بدلاً من ذلك، إلى اكتشاف ما تعتقد أنه نفسك وهو ليس كذلك. أي أن معرفة الذات تكون بالسلب لا بالإيجاب. في المشي البعيد عن الصخب، ستتساقط الصفات التي كنت تضفيها على نفسك أو تُضفى عليك، وستعرف في تلك العزلة، إذا كنت تظن أنك كريم وشجاع، وأنت غير كريم وغير شجاع، بأنك لست بكريم ولا بشجاع. لكن لذتك واغتباطك بمعرفة الحقيقة مجردة من كل زيف، سيكونان أكبر وأعمق من كل فخر كاذب.
فقط في مشيك البعيد عن الصخب تتجلى لك حياتك كفيلم سينمائي لتعيد حرث الأحداث، وربما تكتشف أنك فهمت كثيراً من الأحداث على وجه خاطئ، وكيف أنك أسأت الظن في مواضع إحسانه وأنك قد أحسنته في مواضع إساءته، وستعرف لماذا تغيرت الأحوال وجفّت العواطف، وكيف أن الغالين لم يعودوا غالين. هذه من الأخطاء التي نقع فيها عندما نبالغ في محبة الناس، ثم نعود فنبالغ في كرههم.
في المشي مسافات طويلة بعيداً من الضجيج شعور عميق بالعزلة، لكنك تستطيع أن تحول هذا الشعور إلى نقيضه، إلى نوع من الاتحاد، فتتجاوز كل الأشياء الصغيرة مبصراً هذا التناغم البديع الذي يحكم العالم. تنظر صوب الخارج من خلال الحواسّ المتجهة صوب العالم الخارجي، فتجد الواحد في صميم النفس، في أعماق النفس الإنسانية. ولكن، أين زلّت بك القدم؟ ألم يُقل لك أن تنتبه لفخاخ الذهن الذي سيغرقك في عالم الأشياء الصغيرة وسيستهلك طاقتك في الخلاف والصراع والعداوات؟ وسيبقى هذا الصراع حتى تتوق من جديد إلى حضن الأم الرؤوم والأيادي الحريرية التي تمنحك الراحة ولا تمنحك مزيداً من المعرفة، لتحيا مبتهجاً مغتبطاً باللحظة الراهنة.