سنجار... عقدة الحدود والنفوذ

تقوم المنطقة على توليفة عسكرية وسياسية قابلة للاشتعال في أي لحظة

AFP
AFP
مقاتلون من "البيشمركة" الكردية يتجمعون في سنجار في 21 ديسمبر/ كانون الاول 2014

سنجار... عقدة الحدود والنفوذ

بينما كانت وسائل الإعلام المحلية والعالمية تنقل أخبارا وتخمينات عن نية الولايات المتحدة الأميركية "إغلاق" الحدود بين سوريا والعراق، وتوجيه ضربات عسكرية "قاسية" إلى الفصائل المنتشرة على طرفي الحدود، كانت "المجلة" تجول في منطقة سنجار، في الجهة العراقية من المثلث الحدودي مع كل من سوريا وتركيا.

وسنجار هي المنطقة الأكثر تركيبا وتداخلا وكثافة سكانية على طول تلك الحدود، إلى جانب وعورتها الجغرافية الجبلية الحادة؛ كما تقوم تلك المنطقة على "توليفة" عسكرية وسياسية بالغة التعقيد، هشة وقابلة للاشتعال في أي لحظة. ومن جانب آخر، هي منطقة استراتيجية للغاية، تتصارع عليها دول إقليمية، وقوى عالمية، وأحزاب سياسية محلية رئيسة، ووفق توازنات شديدة الدقة.

AFP
صورة التقطت بتاريخ 4 شباط/ فبراير 2019، تظهر المباني المتضررة في سنجار

يرى المراقبون أن السيطرة العسكرية والأمنية على سنجار، تُعتبر مفتاح ضبط الحدود بين العراق وسوريا وتركيا، وأداة لإعادة الاستقرار المديد إلى واحدة من أكثر جغرافيات المنطقة قلقا وتداخلا. فكل من تركيا، والحكومة المركزية العراقية، وإقليم كردستان، والأطراف الحاكمة لسوريا، ومعها طبعا الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، تُصنف استقرار سنجار كشرط ضروري لـ"أمنها القومي".

سنجار مُصنفة كأقدم وأكبر أقضية العراق على الإطلاق، وذات خصوصية إدارية وثقافية منذ عهد الإمبراطورية العثمانية، لأن الغالبية المطلقة من سكانها من أبناء الديانة الإيزيدية. حتى النظام العراقي السابق منحها خصوصية إدارية وثقافية معينة. 

سنجار مُصنفة كأقدم وأكبر أقضية العراق على الإطلاق، وذات خصوصية إدارية وثقافية منذ عهد الإمبراطورية العثمانية، لأن الغالبية المطلقة من سكانها من أبناء الديانة الإيزيدية.

AFP
إيزيديون يرفعون لافتات حداد على ضحايا مجزرة أغسطس/ آب 2014 في قرية كوجو بمنطقة سنجار

حتى النظام العراقي السابق منحها خصوصية إدارية وثقافية معينة. لكنها تحولت بعد عام 2003 إلى جزء رئيس من "المناطق المتنازع عليها"، بحسب المادة 140 من الدستور العراقي، إذ من المفترض أن تُدار بالشراكة بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، إلى حين البت النهائي في تابعيتها. لكنها شهدت مأساة مروعة عام 2014، بعد احتلال تنظيم داعش لغالبية مناطقها، وارتكابه إبادة جماعية بحق المكون الإيزيدي، وعندما تم تحريرها نهائيا عام 2017، انسحبت قوات البيشمركة الكردية منها، وصارت خاضعة لمجموعة من الميليشيات والفصائل العراقية والإقليمية.

فيض من الفصائل

تنتشر في الجهات الأربع لقضاء سنجار كثير من الفصائل والميليشيات المسلحة، التي تستند كل واحدة منها إلى "شرعية ما"، وتغطية استراتيجية من قِبل دولة إقليمية رئيسة. والوضع ضمن بلدة سنجار نفسها يعبر عن ذلك التعقيد، إذ يواجه العابر إليها حواجز أمنية مشتركة، تتألف من عناصر من مختلف الفصائل المسلحة، بما في ذلك الجيش العراقي نفسه، الذي يتصرف عمليا كفصيل عادي لا أكثر. 
فصائل الحشد الشعبي المُقربة والمرتبطة بإيران هي القوى الأكثر حضورا، خصوصا في المنطقة الشرقية والجنوبية من قضاء سنجار. إذ ثمة حضور كثيف لفصائل "عصائب أهل الحق"، و"منظمة بدر"، اللتين تُعتبران صاحبتي القرار الأمني- الاستراتيجي بالنسبة إلى بقية الفصائل، والمخولتين بالتنسيق بين مختلف فصائل الحشد، وبينها وبين التنظيمات المحلية والقوى الإقليمية المؤثرة في تلك المنطقة. 
 

تسيطر فصائل الحشد الشعبي على مواقع وأسلحة استراتيجية، خصوصا في المحور الجنوبي من قضاء سنجار، الذي يمتد إلى منطقة القائم على نهر الفرات، المعبر الحدودي مع سوريا، حيث تنتشر الفصائل المرتبطة بإيران داخل سوريا، اعتبارا من مدينة البوكمال، صعودا حتى العمق السوري. 

تقول معلومات متقاطعة ومتطابقة، حصلت عليها "المجلة"، إن الحشد الشعبي يعتمد في سيطرته الميدانية على أربعة فصائل رئيسة، هي "فرقة العباس القتالية"، المؤلفة من حوالي ثلاثة آلاف عنصر، وفصيل "أنصار الحجة"، عبر "اللواء-29"، بعدد يقل عن ذلك، وإلى جانبهما "اللواء-15"، المرتبط بالتيار الصدري فعليا، لكنه متعاون عمليا مع بقية تنظيمات الحشد، كما يتجهز الحشد لتأسيس فصيل جديد، مؤلف من الإيزيديين حصرا. 
تسيطر فصائل الحشد الشعبي على مواقع وأسلحة استراتيجية، خصوصا في المحور الجنوبي من قضاء سنجار، الذي يمتد إلى منطقة القائم على نهر الفرات، المعبر الحدودي مع سوريا، حيث تنتشر الفصائل المرتبطة بإيران داخل سوريا، اعتبارا من مدينة البوكمال، صعودا حتى العمق السوري. 
الفصائل الإيزيدية/ الكردية مُصنفة إلى أربع "تابعيات سياسية"، ومنتشرة في المنطقتين الشمالية والغربية من قضاء سنجار، مع حضور داخل البلدات والمجمعات السكنية، باعتبارها مؤلفة بالأساس من السكان المحليين. 
تأتي "قوات حماية أيزيدخان" على رأس تلك الفصائل، وهي، سياسيا، مقربة من "الاتحاد الوطني الكردستاني"، الحزب السياسي الرئيس والشريك في سلطة إقليم كردستان. تتراوح أعداد مقاتلي هذا التنظيم بين سبعة وعشرة آلاف مقاتل، يشاركون بكثافة في إدارة الملف الأمني مع جهاز الأمن الوطني والجيش العراقي، ويعملون على منع أي احتكاك أو تصعيد بين فصائل الحشد الشعبي، وبيشمركة إقليم كردستان، في القاطع الشمالي من قضاء سنجار. 
 

تنتشر في الجهات الأربع لقضاء سنجار كثير من الفصائل والميليشيات المسلحة، التي تستند كل واحدة منها إلى "شرعية ما"، وتغطية استراتيجية من قِبل دولة إقليمية رئيسة. 

في المناطق الجبلية والغربية من قضاء سنجار، ابتداء من بلدة خانيصور باتجاه الجنوب والغرب، تنتشر "وحدات حماية سنجار" YPŞ))، المرتبطة عقائديا وتنظيميا بـ"حزب العمال الكردستاني"، وهي تشغل موقعا مركزيا في قضاء سنجار، بسبب مساهمتها في تحرير آلاف الإيزيديين من تنظيم داعش الإرهابي في صيف عام 2014، وكانت أولى التنظيمات التي تجترح ممرا أمنيا من داخل سوريا نحو المناطق الجبلية الوعرة في قضاء سنجار، وأنقذت- تاليا- آلاف المدنيين الإيزيديين المحاصرين من قِبل مقاتلي داعش في تلك المنطقة.
ليس هناك إعلان رسمي عن تعداد "وحدات حماية سنجار"، لكن المعلومات تقول إنهم لا يقلون عن عشرة آلاف مقاتل، يتلقون دعما ماليا من هيئة الحشد الشعبي، لأنهم من أشد المعارضين لعودة قوات البيشمركة التابعة لإقليم كردستان إلى قضاء سنجار، مثلها مثل الحشد الشعبي؛ ولأنهم أيضا جزء من الترتيبات الإقليمية الأوسع، فهم مناهضون لتركيا ويتعرضون لهجمات شبه يومية من قِبلها، وتاليا هم أقرب إلى إيران في اللوحة العامة للتوازن الإقليمي. 

AFP
مقاتلون من قوات "البيشمركة" الكردية العراقية يحملون العلم الكردي في بلدة سنجار شمال العراق


فصيلان إيزيديان آخران مرتبطان بالحشد الشعبي موجودان في المنطقة، هُما "الجبهة القومية الإيزيدية"، التي تحمل خطابا يسعى لاعتبار الإيزيديين قومية وشعبا بذاتهم، وليسوا جزءا من القومية الكردية، وتقدر أعدادهم بنحو خمسة آلاف مقاتل، وفصيل "لالش"، التابع لـ"كتائب الإمام علي". هذان الفصيلان هُما على النقيض تماما من "أفواج البيشمركة الإيزيدية"، ذات الولاء والقرب السياسي من إقليم كردستان، تحديدا من "الحزب الديمقراطي الكردستاني". 
 

يعتبر مقاتلو "وحدات حماية سنجار" من أشد المعارضين لعودة قوات البيشمركة التابعة لإقليم كردستان إلى قضاء سنجار؛ وهم أيضا جزء من الترتيبات الإقليمية الأوسع، فهم مناهضون لتركيا ويتعرضون لهجمات شبه يومية من قِبلها، وتاليا هم أقرب إلى إيران في اللوحة العامة للتوازن الإقليمي. 

في ظل هذا التوزع الداخلي للفصائل المسلحة ضمن القضاء، فإن تركيا تملك قاعدة عسكرية فعالة في منطقة بعشيقة، على الحدود الفاصلة بين إقليم كردستان وسهل نينوى، تستخدمها لبسط نفوذها العسكري والأمني، ولخلق وشائج مع الفصائل السياسية والجماعات الأهلية المقربة منها في محافظة الموصل (نينوى) العراقية. لكن تركيا أيضا تنفذ عمليات قصف جوي واغتيالات استخباراتية على نحو متواتر ضمن قضاء سنجار، ضد مقاتلي "وحدات حماية سنجار"، وهو ما تُعلنه الجهات الأمنية التركية علنا.

AP
دبابات تركية في معسكر بعشيقة الذي تقيمه تركيا في الموصل


على الجانب السوري المقابل، تمتلك الولايات المتحدة، ومعها دول "التحالف الدولي لمكافحة داعش"، كثيرا من القواعد والمراكز العسكرية، التي تُغطي استراتيجيا انتشار "قوات سوريا الديمقراطية" QSD))، والتي تمتلك وشائج آيديولوجية وتنظيمية مع "وحدات حماية سنجار". 

 

استعصاء دائم


تُعبر مختلف القوى الإقليمية والدولية عن قلقها بشأن الأوضاع الأمنية في سنجار، والقلاقل التي يُمكن أن تتسبب فيها، تحديدا بين الأطراف الإقليمية المتزاحمة، وإمكانية تحول المنطقة إلى بؤرة لعودة التنظيمات المتطرفة، التي إذا سيطرت على الجغرافيا الجبلية الوعرة فيها، فمن الممكن أن تتحول إلى عُقدة أمنية بعيدة المدى. 
وهناك أربع حكومات مركزية عراقية متتالية، منذ تحرير قضاء سنجار من قبضة تنظيم داعش، لم تتمكن من تنفيذ رؤية استراتيجية بشأن القضاء، على الرغم من الفروض الدستورية والاتفاق الأمني الذي وقعته مع إقليم كردستان خريف عام 2020، والمسمى عُرفا "اتفاق سنجار". 
ومن المفترض، بحسب ذلك الاتفاق، أن تتشكل لجنة مشتركة بين الإقليم والحكومة المركزية، تعيد تعيين معظم الموظفين الإداريين والسلطات المحلية في القضاء، وعلى رأسها قائمقام القضاء، ومثله بقية المناصب الإدارية العليا في مختلف المؤسسات، سواء المنتخبة والمنبثقة عن مجلس القضاء، أو مديريات الوزارات العراقية، وذلك بعد تدقيق مشترك في الأسماء والتوافق عليها، حتى لا تثير حفيظة أي من السكان المحليين، سواء الإيزيديين أو العشائر العربية المنتشرة في محيط بلدة سنجار، والتابعة إداريا لها. 
 

تُعبر مختلف القوى الإقليمية والدولية عن قلقها بشأن الأوضاع الأمنية في سنجار، والقلاقل التي يُمكن أن تتسبب فيها، تحديدا بين الأطراف الإقليمية المتزاحمة، وإمكانية تحول المنطقة إلى بؤرة لعودة التنظيمات المتطرفة، التي إذا سيطرت على الجغرافيا الجبلية الوعرة فيها، فمن الممكن أن تتحول إلى عُقدة أمنية بعيدة المدى. 

أمنيا، ينص القرار على تشكيل قوة حماية محلية/ جهاز شرطة، مؤلفة من 2500 عنصر من السكان المحليين وحسب، تتولى ضبط الأمن في كل مناطق القضاء، بالتنسيق التام مع جهاز الأمن الوطني والاستخبارات العراقية. 
لكن البند الأكثر حساسية ضمن الاتفاق، ينص على إخراج كل فصائل الحشد الشعبي، ونظيرتها المقربة من "حزب العمال الكردستاني"، من كل مناطق قضاء سنجار، وأن يكون تنفيذ الملف الأمني منوطا بالمؤسسات الأمنية الاتحادية وحسب، وعبر جهازي الشرطة والأمن المحليين، وبالتعاون مع إقليم كردستان. وهو ما شكل مصدر الاعتراض الأساسي لـ"الحشد الشعبي"، والفصائل المقربة من "حزب العمال الكردستاني". 
إن عدم تنفيذ "اتفاق سنجار"، بالرغم من إعلان مختلف الحكومات العراقية التزامها به، والدعوات الدولية والإقليمية– ما عدا إيران- إلى ضرورة تطبيقه، أدى عمليا إلى تأخر ملف إعادة إعمار "قضاء سنجار"، وتأخر عودة اللاجئين الإيزيديين إلى مناطقهم. وتاليا بقاء منطقة سنجار شبه خالية من السكان، وجاهزة لأن تكون بؤرة لانتشار الفصائل المسلحة، فضلا عن القلاقل الأمنية.

AFP
جندي كردي يفتش سيارة عند نقطة تفتيش بالقرب من بلدة زاخو على الحدود العراقية - التركية


ثلاث جهات رئيسة تعلن بوضوح عدم قبولها بالوضع الراهن في سنجار، باعتباره يمس بأمنها مباشرة، وهي تُعلن عن إمكان تدخلها عسكريا في المنطقة، وهو أمر إن حدث فسيخلط الأوراق كليا؛ فتركيا تُعلن جهارا عدم قبولها باستقرار مقاتلين مقربين من "العمال الكردستاني" في تلك المنطقة الحصينة، وتعلن رفضها تشكيل حزام أمني مناهض لها، ممتد من شمال شرقي سوريا إلى منطقة السليمانية في إقليم كردستان، مرورا بقضاء سنجار. 
 

إن عدم تنفيذ "اتفاق سنجار"، بالرغم من إعلان مختلف الحكومات العراقية التزامها به، والدعوات الدولية والإقليمية– ما عدا إيران- إلى ضرورة تطبيقه، أدى عمليا إلى تأخر ملف إعادة إعمار "قضاء سنجار"، وتأخر عودة اللاجئين الإيزيديين إلى مناطقهم. وتاليا بقاء منطقة سنجار شبه خالية من السكان، وجاهزة لأن تكون بؤرة لانتشار الفصائل المسلحة، فضلا عن القلاقل الأمنية.

كذلك يعرب إقليم كردستان عن قلقه من عدم تنفيذ الحكومات العراقية "اتفاق سنجار". فـ"الديمقراطي الكردستاني"، يعتبر سنجار جزءا من نفوذه السياسي التاريخي، وهو الذي حصل في الانتخابات الأخيرة على غالبية أصواتها، وتاليا يُصنف سيطرة فصائل "الحشد الشعبي"، وما يناظرها من تنظيمات مقربة من "العمال الكردستاني" عليها، بمثابة استبعاد تام له من منطقة استراتيجية، ونوع من القسر السياسي والأمني. 

Getty Images
عناصرمن "البيشمركة" الكردية العراقية يفتشون الشاحنات على الحدود العراقية - التركية


الولايات المتحدة بدورها، ومعها مختلف دول التحالف الدولي، تعتبر الوضع الحالي في سنجار مصدرا للقلاقل، لأن فصائل "الحشد الشعبي" بعمومها تعمل ضمن استراتيجية إيران للهيمنة على المنطقة، ولذلك تعمل الولايات المتحدة جاهدة على إيجاد "حل ما" لذلك. 
 

font change

مقالات ذات صلة