يدور الحديث منذ عقود في عدد من دول الخليج حول أهمية تولي القطاع الخاص دوراً حيوياً في الحياة الاقتصادية نظرا إلى سيطرة الدولة والقطاع العام وهيمنتهما على مختلف الأنشطة الاقتصادية منذ بداية عصر النفط في مطلع خمسينات القرن الماض. قبل ذلك، كان العمل الاقتصادي والتوظيف منوطاً بأصحاب الأعمال أو الأفراد أنفسهم كحرفيين وأصحاب مهن. لم يكن للدولة آنذاك دور سوى حماية الأمن والنظام وتنظيم الأعمال وجباية الضرائب الجمركية وغيرها من رسوم وضرائب محدودة لتمويل أعمال الإدارة. كان أصحاب الأعمال يجوبون البحار في التجارة والغوص أو يديرون مزارع النخيل، لينتقلوا بعد ذلك إلى توظيف أموالهم في شركات تنتج الكهرباء أو تعمل في البريد والهاتف والنقل البري والتوزيع السلعي، ناهيك بالأعمال العقارية المحدودة. لم يتخيل هؤلاء أن الثروة النفطية سوف تهمشهم وتدفع الدولة إلى تولي مسؤوليات غير مسبوقة أو متوقعة.
الدور الاقتصادي للدولة ليس فضيلة
استفاد، في طبيعة الحال، كل من يملك مصالح وأعمالا من الثروة الجديدة وتعاملوا مع الدولة كمقاولين ومزودين، ثم نظموا الأعمال المصرفية وتولوا إدارة الأموال في مصارف مملوكة من القطاع الخاص. أما التعليم والرعاية الصحية، فقد اعتمدا على دور القطاع الخاص أيضا في تأسيس المدارس وإنشاء العيادات الطبية، قبل أن تتولى الدولة دورا واسع النطاق في هذين المجالين، وكذلك في الإسكان. طورت الدولة أيضا البنية التحتية، ووفرت الطرق والتمديدات الكهربائية والاتصالات وغيرها من الخدمات اللوجستية.
آن الأوان، وبعد سنوات وعقود طويلة من التسلط الحكومي على الاقتصاد، أن تتغير الأحوال ويستعيد القطاع الخاص دوره المشروع والمنطقي. علماً أن هناك مواقف شعبوية معادية للقطاع الخاص ورجال الأعمال والاستثمار الأجنبي
حدثت هذه التحولات في مختلف دول الخليج من دون استثناء، وإن تفاوتت درجة الهيمنة الحكومية وطغيانها على الحياة الاقتصادية. آن الأوان، وبعد سنوات وعقود طويلة من التسلط الحكومي على الاقتصاد، أن تتغير الأحوال ويستعيد القطاع الخاص دوره المشروع والمنطقي. علماً أن هناك مواقف شعبوية معادية للقطاع الخاص ورجال الأعمال والاستثمار الأجنبي، بعدما تشبعت المجتمعات الخليجية، امتثالا بالمجتمعات العربية الأخرى، بالأفكار السياسية الشمولية، وبعدما أصبح غالبية العاملين يعتمدون على التوظيف في الدوائر الحكومية ومؤسسات القطاع العام.
لا شك أن دولاً خليجية، ولأسباب مختلفة، بدأت بإنجاز تحولات مهمة في بنيتها الاقتصادية، ومنها السعودية والإمارات والبحرين وعمان. أيقنت الحكومات في هذه الدول أن عصر النفط غير قابل للديمومة ومن الأفضل التعامل مع متطلبات التنويع الاقتصادي وتعزيز دور القطاع الخاص مبكراً قبل مواجهة المصاعب في المستقبل عند تراجع إيرادات النفط. كما أن هذه الدول اقتنعت بأن القطاع الخاص يمكن أن يساهم في تنمية الناتج المحلي الإجمالي ويدير مختلف الأنشطة بكفاءة أفضل، خصوصاً إذا ما توفرت له فرص التعاون مع الشركات الأجنبية المتخصصة في مجالات متعددة. تأكد لهذه الدول أن دور الدولة في العمل الاقتصادي ليس فضيلة، ولا بد من التحرر من الأوهام وإعادة الاعتبار إلى الممارسة الحرة والمبادرة الخاصة وفسح المجال لرجال الأعمال لتقييم أخطار الاستثمار وكيفية تحقيق العائدات وحماية رؤوس الأموال.
بين العقبات والفرص
هنـــاك تساؤلات مهمة في شأن دور القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي. ما هي القطاعات المسموح للقطاع الخاص بولوجها والحلول فيها مكان الدولة؟ ثم هل يمكن للقطاع الخاص أن يوفر الوظائف المناسبة والكافية للمتدفقين إلى سوق العمل؟ كيف يمكن حماية المستهلك من الارتفاع المتوقع لأسعار الخدمات بعد إلغاء الدعوم عن الكهرباء والمياه والوقود؟
يمثل التوظيف أهم العقبات التي تواجه دور القطاع الخاص، حيث لا يزال هذا القطاع، من خلال مؤسساته، يعتمد على العمالة الوافدة لأسباب عديدة، لم يوفر التعليم في دول الخليج فئات عمالية وطنية يمكن أن تضطلع بمختلف المهن والحرف التي تتطلبها مؤسسات القطاع الخاص
هل يمكن أن تتحول أعمال التربية والتعليم والرعاية الصحية والإسكان إلى القطاع الخاص؟ مثل هذه الأسئلة مشروعة ومهمة للحفاظ على الأمن الاجتماعي وحماية العاملين والمستهلكين، ولكن يجب ألا تكون أداة لوقف التحول الاقتصادي، حيث أن هناك معالجات موضوعية تمكن من تجاوز كل المعضلات والعقبات البنيوية. يمثل التوظيف أهم العقبات التي تواجه دور القطاع الخاص، حيث لا يزال هذا القطاع، من خلال مؤسساته، يعتمد على العمالة الوافدة لأسباب عديدة، منها التأهيل المهني والتكاليف وتحمل الأعباء الوظيفية. لم يوفر التعليم في دول الخليج فئات عمالية وطنية يمكن أن تضطلع بمختلف المهن والحرف التي تتطلبها مؤسسات القطاع الخاص، حيث يؤثر الطلبة الخليجيون الالتحاق بالجامعات ومؤسسات التعليم العالي رغبة في تبوؤ وظائف "الياقات البيضاء". يضاف إلى ذلك، أنه عندما أخذت أعمال القطاع الخاص تتحسن بعد بداية عصر النفط، كانت القاعدة السكانية الوطنية في دول الخليج صغيرة وغير مؤهلة مهنياً وتعليمياً.
فإذا ما وضعت معايير لعمل القطاع الخاص وأتيحت له القيام بالمهام التي تضطلع بها الدولة في الوقت الراهن، وتعززت فرص المنافسة العادلة، فسيجني المستهلك سلعا وخدمات بجودة أفضل، وربما بأسعار معقولة.
بالطبع، ستستمر الدولة في توفير التعليم الأساسي، وربما العالي، ويمكنها في الوقت نفسه، أن تتيح للقطاع الخاص فرصة تطوير مؤسسات تعليمية عالية الجودة تمكن المتميزين من تلقي التعليم عبرها. أما الرعاية الصحية، فتوفرها دول الخليج للمواطنين والمقيمين، إلى جانب مستشفيات وعيادات خاصة متاحة لمن لديه القدرة على دفع رسومها أو يتوفر لديه التأمين الصحي لتغطية مصاريفها. أما الإسكان، فالمسألة تتفاوت بين الدول، حيث أن هناك دولا أقدمت على تحويل هذه المسؤولية إلى القطاع الخاص، ومنها دولة الإمارات والسعودية والبحرين وعمان. إلا أن الكويت وقطر لا تزالان تعتمدان برامج حكومية لتوفير السكن الخاص للمواطنين، على الرغم من غياب الكفاءة، حيث ينتظر الراغبون في الحصول على السكن لفترات زمنية طويلة قد تتجاوز العشرين عاماً. يؤكد تعهد الحكومات بتوفير السكن مباشرة للمواطنين بأن ذلك حقا مكتسبا لا يمكن التنازل عنه. وبما أن دول الخليج تتميز بنمو سكاني متسارع لا يقل عن 2 في المئة سنوياً، فإن التكاليف الإسكانية تتزايد وتتطلب خدمات أساسية متنوعة مثل الطرق والتمديدات الكهربائية والمياه والمجاري والخدمات التعليمية والصحية.
مساهمة متواضعة
يقدّر الناتج المحلي الإجمالي لكل دول الخليج، بحسب الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي، بنحو 2,2 تريليون دولار في عام 2022 حيث بلغ 1,1 تريليون دولار في السعودية و508 مليار دولار في الإمارات و237 مليار دولار في قطر و185 مليار دولار في الكويت و115 مليار دولار في عمان و 44 مليار دولار في البحرين. فما هي مساهمة القطاع الخاص في تحقيق الناتج المحلي الإجمالي؟ هناك تقديرات بأن النسبة لا تتجاوز 35 في المئة، إلا أن دولا مثل السعودية والإمارات تتطور بسرعة وقد تتمكن من زيادة مساهمة القطاع الخاص في ناتجها المحلي الإجمالي بما يفوق الخمسين في المئة خلال سنوات قليلة. لكن هل سيتمكن بلد مثل الكويت تهيمن الشعبوية على واقعه السياسي من تحقيق تقدم ملائم في هذا الإطار؟
يقدّر الناتج المحلي الإجمالي لكل دول الخليج، بحسب الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي، بنحو 2,2 تريليون دولار في عام 2022 حيث بلغ 1,1 تريليون دولار في السعودية و508 مليار دولار في الإمارات و237 مليار دولار في قطر و185 مليار دولار في الكويت و115 مليار دولار في عمان و 44 مليار دولار في البحرين
وتواجه قطر أيضا، مشكلات في تطوير دور القطاع الخاص نظراً إلى محدودية قدراته وثروة الدولة الكبيرة الناتجة من الغاز الطبيعي خلال السنوات المنصرمة. لكن هناك إمكانية للشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو مع الشركات الأجنبية في القطاعات الحيوية مثل توليد الطاقة الكهربائية أو تحلية المياه أو إدارة البنية التحتية والمرافق.
تأثير التركيبة السكانية
يتطلب الواقع السكاني في دول الخليج معالجات منهجية متأنية، حيث يبقى المواطنون أقلية في بلدانهم، ماعدا السعودية وعمان، إلى حد ما. فإن كان عدد سكان دولة الإمارات يتجاوز 10 مليون نسمة، يشير المركز الوطني للإحصاء إلى عدد المواطنين بلغ 2,7 مليون في عام 2023، وإن كان هناك جهات متخصصة تشير إلى نسبة أقل من المواطنين. ينطبق الحال على الكويت وقطر، حيث تبلغ نسبة المواطنين في الكويت 31 في المئة، في حين تصل النسبة إلى 13 في المئة في قطر.
هذه الحقائق الديموغرافية تظل ذات أهمية للإصلاح الاقتصادي والتحولات البنيوية المؤدية إلى رفع مساهمة القطاع الخاص. وإذا كانت التوجهات الرسمية تهدف إلى تعديل التركيبة السكانية ورفع نسبة المواطنين، فما هي التأثيرات على مصالح القطاع الخاص وهل سترفع التكاليف التشغيلية أو تؤدي إلى تراجع الاستهلاك العائلي والفردي بما يخفض من إيرادات المؤسسات الخاصة؟
القضايا بشأن دور القطاع الخاص وأهميته في التنمية المستدامة عديدة، وكذلك التساؤلات المشروعة حول دوره في القطاعات الرئيسية كلها.