أزمة النصّ المسرحي العربي تبرز اليوم أكثر فأكثر، وتتوقّد حتى العقم والعجز في اطّراد عجيب. وإذا أردنا اختزال الأزمة، فيكاد يكون تحديدها بأنّها أزمة كاتب مسرحي أوّلا وأخيرا. أي أزمة إبداع في النص المسرحي نفتقده موسما بعد موسم، وتجربة بعد تجربة. البعض يهرب من المشكلة إلى الأمام، فيتّهم العامّيّة المستشرية في المسرحيّات العربيّة، ويعتبرها تهديدا للتراث وربّما مسؤولة عن أزمة الشرق الأوسط. البعض الآخر يتّهم النصّ الفصيح بأنّه نصّ خارج اللغة المسرحيّة، وخارج إيقاع اللغة المتداولة على الخشبة، لأنّه ليس من لغة الواقع اليومي (ولماذا لا يتّهم الواقع اليومي بأنّه ليس من لغة المسرح!). والبعض يتّهم الترجمة والمترجمين والنصوص المترجمة. والبعض يتّهم المخرج والمخرجين، والممثلين، وربّما الاكسسوارات والكراسي والنوافذ والديكورات... إلخ. هكذا يستريح الجميع، في آراء جاهزة، ومقاربات غير مسرحيّة أصلا، من عناء البحث عن جذور الأزمة.
قد يكون ذلك، إذا ما أردنا ربطه بالحالة العامة، شكلا من أشكال الإحباط الابداعي المتّصل بالترهّل الشاسع الذي يعاني منه الفكر العربي، والثقافة العربيّة. الدليل أن الكلام على الأزمات لا يقتصر على النصّ المسرحي، وإنّما يطول إلى الإخراج، والكوريغرافيا، والرؤية، ويطول كذلك، متشعّبا، إلى القطاع السينمائي، والفلسفي، والعلمي، والتكنولوجي، والأيديولوجي، والتربوي، والصناعي والاقتصادي. نحن نعيش في مجتمع، يقال، كل يوم، بأنه مجتمع أزمات. وإذا ابتعدنا، وإن اعتسافا، عن التوغل في تشابكات هذه الأزمات، متوقفين عند إشكاليّة النص المسرحيّة، نجد أن مشكلتنا الأساسيّة، في هذا الإطار، أنه لم يتكوّن عندنا، بعد مرور أكثر من 150 عاما على ظهور أوّل نصّ مسرحي عربي مع اللبناني مارون النقاش عام 1848، مفهوم مشترك وبديهي لأوّليات النصّ المسرحي. فكأنّنا لا نزال نبحث في هذه الأوّليات والبديهيّات، بل ونتراجع أحيانا كثيرة عنها. من هذه الأوّليات أنّ النصّ المسرحي ينتمي أولّا وأخيرا إلى ذاته. أي إنّه ينتمي لا إلى الأدب ولا إلى القصيدة ولا إلى الملحمة ولا إلى الرواية ولا إلى الإذاعة والتلفزيون والسينما، تماما كما هي التعابير والفنون الأخرى. فكما أنّ للقصيدة أسرارها الخاصة ومفاتيحها ودلالاتها وبنيتها الخاصة التي تميّزها عن المسرحيّة والرواية والقصّة، وكما أنّ لكلّ تعبير مثل هذه المواصفات الخاصة به، فللنصّ المسرحي ما يُفرد له المساحة المستقبلة، والحيّز المتفرّد، فلا يلتبس، في لغته، مع أيّة تشاكيل أو بنيات مغلقة أخرى.
لكن هذا لا يعني أنّ المسرحي في انتمائه إلى بنية له، معزول، ومختنق في عزلته. فالبنية لا تعني العزلة، خصوصا عندما تكون حيّة، ديناميّة، غنيّة. والبنية المغلقة على أسرارها لا تعني الانغلاق. وهذا يقود إلى أن النص المسرحي، يمكن أن يتقاطع، في تضاعيفه ومستوياته ونبراته، مع الحياة بكل تناقضاتها، وكذلك مع كل أجناس التعبير وأنواعه وأشكاله. فالمسرح الذي طلع أصلا من الحياة يموت إذا غادرها. لكن الحياة تصبح في المسرح ذات احتمالات ومقاربات، تصل إلى أقصاها، أي إلى حلمها الفانتازي أو كابوسها الجحيمي.
لم يتكوّن عندنا، بعد مرور أكثر من 150 عاما على ظهور أوّل نصّ مسرحي عربي، مفهوم مشترك وبديهي لأوّليات النصّ المسرحي
بمعنى أن المسرح قد يوغل في إدراك الواقعية وكذلك في أقاصي المخيّلة. وكلتاهما جزء من الحياة، على أنهما تتحوّلان لغة مسرحيّة، تتحوّلان بموجباتهما وتشاكيلهما، تصيران مسرحا. أي تصيران حياة أخرى، هي عمق الحياة الواقعية وشروطها ومتطلّباتها. والنصّ المسرحي شِعر أحيانا (وربّما دائما)، لكن الشِّعر في هذا النصّ، يفقد هُويته الشعريّة التي تنتسب إلى "القصيدة"، ليكتسب هُويّة مسرحيّة. لا يعود شعرا مغلقا، وإنّما شعر في بناء مسرحي، وفي لغة مسرحيّة، يصبح شعرا خادما المسرح، وليس شعرا يخالف المسرح. وهنا تطرح مسألة المسرح الشِّعري، والقصيدة الدراميّة. وهذا لا يمسّ التفاصيل المتعلقة بالحوار فقط، وبالشخصيات، وإنما بجوهر اللعبة الإبداعيّة. فلا يكفي أن نقدّم حواريّة ما، أو حكاية تتخلّلها حواريات، حتى تصبح الأولى أو الثانية عملا مسرحيّا. كما لا يكفي أن نقتطع من رواية أو من نصّ، بعض ما يتّصل بالمسرح، كي نسمّي ذلك عملا مسرحيّا. فالحواريّة المنفلتة قد تلتقي جزءا من المسرح لكنها لا تنغرز في صميمه.
أحمد شوقي والأخطل الصغير وفوزي المعلوف وجبران ونعيمة وخليل مطران وصلاح لبكي وبدوي الجبل والجواهري وعلي محمود طه، شعراء نقع في قصائد لهم، على حواريّات، أو ملامسات دراميّة. على أن هذه الحواريّات تنتسب إلى الشِّعر أو إلى القصيدة، أو إلى القصة الشِّعريّة عندهم، أكثر ممّا تنتسب إلى المسرح. لأنّها ملمح مسرحي لا يخدم ذاته، وإنّما يخدم سواه أي الشِّعر والقصيدة. يمكن أن نقتطع نصوصا طويلة من الحواريات في روايات كثيرة عند دوستويفسكي وتولستوي وغوغول وبلزاك وإميل زولا وغوستاف فلوبير ووليم فوكنر ونجيب محفوظ وحنا مينه وتوفيق يوسف عواد وإميل حبيبي... لكن هذه الحواريّات مدموغة بالرواية، كعنصر من عناصرها، فالحوار عنصر روائي هنا، وليس عنصرا مسرحيّا. وانتسابه إلى الروائي يجعله من ضمن البنية الروائيّة العامة. والحوار السينمائي والتلفزيوني والإذاعي، على تقاطعه مع المسرحي، يبقى عنصرا منتميا إلى السينما والتلفزيون والإذاعة، كبنيات فنّية مستقلة، لها تقنياتها وفضاءاتها الخاصة.
لا يكفي أن نقدّم حواريّة ما، أو حكاية تتخلّلها حواريات، حتى تصبح الأولى أو الثانية عملا مسرحيّا. كما لا يكفي أن نقتطع من رواية أو من نصّ، بعض ما يتّصل بالمسرح، كي نسمّي ذلك عملا مسرحيّا
يعني كل ذلك أنّ النصّ المسرحي فضاء مسيّج بحدوده. لكنه فضاء مفتوح على كل المعطيات الحياتيّة والفنيّة. هو جزء منها. لكنه جزء مستقل. جزء من إرهافاتها، لكنها إرهافات خاصة به. وهنا بالتحديد يمكن الكلام على العنصر الامتصاصي في النصّ المسرحي. فهو قادر مع كتّاب قادرين وذوي لغة ورؤية وهموم مسرحيّة على استيعاب مجمل هذه التشاكيل والحيويات وتحويلها إلى ذاته. فالحالة الشعريّة تصير حالة مسرحيّة. والشخصيّات المتعدّدة تصير شخصيات مسرحيّة. المسرحي يعدم المادة غير المسرحيّة، يجعل منها مادة مسرحيّة. أي الإلغاء وإعادة التكوين. إلغاء ما هو غير مسرحي، وتحويل مادته إلى تشكيل درامي. وهنا تنتفي أيّة ثنائيّة بين مختلف العناصر، في بلورة وصَهْر يشكّلان ما يمكن أن يسمّى المسرحة. فبالمسرحة، تكتسب أيّة لغة مواصفات النصّيّة المسرحيّة. وهي جوهر العمليّة الكتابيّة، والجوهر الحيوي الإبداعي الذي يصفّي مجمل العناصر والمواد والإضافات والمعطيات.
من هنا يبدأ الكلام على اللغة المسرحيّة. من المسرحة بالذات، التي تنبثق من طبيعة التجربة. ولا تقف عند أيّة حدود جاهزة، أو أيّة نبرات نهائيّة، أو أيّة تنظيرات سابقة. فلكلّ تجربة طبيعة مسرحتها وكتابتها وشفويّتها. على هذا الأساس يبدو الحديث عن الفصحى كشكل وحيد، أو عن العامّيّة كشكل وحيد، أو عن توليفة تجمعهما كحلّ ثالث، حديثا غير مسرحي، ولا علاقة له بصلب العمليّة المسرحيّة. فاعتماد الفصحى كلغة أبديّة، نهائيّة، أيّة كانت المسوغات والتبريرات، هو قتل لهذه المسرحة وللمسرح، لأنها تقيّد التجربة وتخنقها. كذلك فاعتماد العامّية كلغة أبديّة، نهائيّة، قتل لهذه المسرحة. وحال اللغة المؤلفة من فصحى مبسّطة، أو عامّية مفصّحة، لا يكون أفضل.
فالمسرحة هي التي تعطي التجربة المسرحية كل أبعادها وفضاءاتها وتكاوينها. بها يكتسب العمل هُويته المسرحيّة المفتوحة.