التزم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، هذه المرة، بالنص المكتوب، في الخطاب الذي ألقاه في الجمعية العامة للأمم المتحدة (21/9/2023)، على خلاف عادته التي تستهويه، بالخروج عن النص، مثلما فعل مرارًا، في هذا المحفل، أو في غيره، الأمر الذي جعله يتفوه بعبارات غير مناسبة، تضرّ بصورته وبمكانة قضيته.
جاء خطاب الرئيس هذه المرة مختصرا ومكثًفا ويعكس واقع حال الفلسطينيين، في كافة أماكن وجودهم. بيد إن المشكلة مع تلك الخطابات التي تتحدث بالبديهيات، إنها لا تقول شيئاً محددا أو تتهرّب من تعيين مسؤوليتها في المسائل التي تطرحها.
ففي خطابه، أكد الرئيس الفلسطيني، مثلا، على مركزية حدث النكبة (1948) الذي تسبب بمأساة الشعب الفلسطيني. لكنه سرعان ما انتقل إلى حدث الاحتلال (1967)، أي أنه أزاح ببساطة الرواية الجامعة المؤسسة للهوية وللقضية وللوطنية الفلسطينية المعاصرة، وذهب نحو التساوق مع رواية إسرائيل عن ذاتها، باعتباره أن الصراع نشأ مع احتلال 1967، وإن حل القضية الفلسطينية يقوم على حل تلك المسألة؛ في تكرار للازمة لم تتحقق منذ تبنيها في أواسط السبعينيات؛ أي منذ نصف قرن تقريبا.
أكد الرئيس، أيضا، أن إسرائيل تتحدى قرارات الأمم المتحدة وتنتهك "مبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية" وإنها تسابق الزمن "لتغيير الواقع التاريخي والجغرافي والديموغرافي على الأرض، من أجل إدامة الاحتلال وتكريس الفصل العنصري (الأبارتهايد)". وفي ذلك بدا عباس كأنه تناسى أن القيادة الفلسطينية كانت وقّعت اتفاق أوسلو (1993)، مع إسرائيل هذه، برغم عدم تنفيذها أي قرار للأمم المتحدة، ومن دون نص يعرّفها كدولة محتلة، أو يرسّم حدودها، أو يوصّف الضفة وغزة كأراض محتلة، كما إن ذلك الاتفاق لم ينص على وقف الاستيطان، الذي يغير الواقع الجغرافي والديمغرافي في الضفة وفي القدس، ولا على دعوة إسرائيل للاعتراف بالقرارين 181 الخاص بتقسيم فلسطين، و194 الخاص بحق العودة.
السؤال الآن للرئيس لماذا لم تتذكر القيادة الفلسطينية كل ذلك إبان مفاوضات أوسلو، وقبل توقيعها على ذلك الاتفاق المجحف؟ ثم كيف ستلزم الأمم المتحدة، التي عجزت عن تنفيذ قراراتها الألف (بحسب تحديده)، منذ 75 سنة (وفقا لحدث النكبة 1948)، أو منذ 56 سنة (حدث احتلال 1967)، أو منذ 30 سنة (حدث اتفاق أوسلو 1993) كيف ستلزم إسرائيل بها الآن؟! أيضا، لماذا لم تتذكّر تلك القيادة الممارسات والسياسات الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية التي تقوم بها "حكومة اليمين العنصري الإسرائيلية"، علما إنها ذات السياسة تقريبا التي قامت بها كل الحكومات الإسرائيلية (بغضّ النظر عن خطاباتها)، التي تتمثّل في الاستيطان والاعتداء على الفلسطينيين، بواسطة الجيش وأجهزة الأمن وعصابات المستوطنين، ويأتي ضمن ذلك "تدمير البيوت والممتلكات، وسَرِقة أموالنا ومواردنا، واحتجاز جثامين الشهداء...واستباحة مدينة القدس والأماكن المقدسة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، والمسجد الإبراهيمي في الخليل."
بدا عباس كأنه تناسى أن القيادة الفلسطينية كانت وقّعت اتفاق أوسلو مع إسرائيل هذه، برغم عدم تنفيذها أي قرار للأمم المتحدة، ومن دون نص يعرّفها كدولة محتلة، أو يرسّم حدودها، أو يوصّف الضفة وغزة كأراض محتلة، كما إن ذلك الاتفاق لم ينص على وقف الاستيطان
ثمة مسائل ثلاث هي أهم ما أثارها الرئيس في خطابه، الأولى، مطالبته، "عقد مُؤتمر دوليٍ للسلام...الذي قد يكون الفُرصة الأخيرة لإبقاء حلّ الدولتين مُمكنا، ولمنع تدهور الأوضاع بشكل أكثر خطورة، ما يهدد أمن واستقرار منطقتنا والعالم أجمع." وبصراحة، من غير المفهوم كيف ستقوم الأمم المتحدة، في هذه الظروف الدولية غير المواتية البتة، بما عجزت عن القيام به في ظروف أفضل من قبل؟ أيضا، من غير المفهوم هكذا طلب مع معرفته أن ذروة ما وصل اليه الوضع الدولي في هذا المجال هو "مؤتمر مدريد للسلام" (1991) الذي لم ينجم عنه شيء سوى ترسيم إسرائيل في إطار "النظام الإقليمي الشرق أوسطي"، مع تطبيع أو من دونه، وعلما أن القيادة الفلسطينية هي التي ضربت عرض الحائط بذلك المؤتمر بانخراطها في قناة تفاوضية سرية، من خارج مسار مؤتمر مدريد، نجم عنها اتفاق أوسلو (1993).
الأهم من ذلك حديثه عن الفرصة الأخيرة، وهذا أمر غير معقول، إذ لا يوجد فرص أخيرة لصراع ممتد، وأيضا، فإن فكرة الرئيس عن أن غياب حل لقضية فلسطين، أي منع قيام دولة فلسطينية وفقا لرؤيته، باتت متقادمة، وقاصرة، ولا يؤيدها الواقع، إذ الأمن والسلام في المنطقة والعالم، لا يتوقف على ما يجري في فلسطين.
أما الثانية، فتتعلق بحديث الرئيس عن دفاع الشعب الفلسطيني "عن وطنه، وعن حقوقه المشروعة، من خلال المقاومة الشعبية السلمية كخيار إستراتيجي...". وفي الحقيقة فإن القيادة الفلسطينية، في طريقة عملها، وتهميشها للكيانات السياسية الجامعة، ونمط سلطتها على فلسطينيي الضفة وغزة كبحت إمكانيات تطور المجتمع المدني، بتصرفها كسلطة أخرى، تحت سلطة الاحتلال، ما يفيد بأن فلسطينيي الأراضي المحتلة (1967) كانوا قبل إقامة السلطة أكثر وحدة وتحررا وجرأة، في صراعهم ضد إسرائيل، منهم بعد إقامتها.
المسألة الثالثة، تخصّ قول عباس "تنخرط مؤسسات دولتنا في عملية إصلاح وتطوير شاملة...قمنا مؤخرا بإجراء الانتخابات المحلية، وانتخابات المؤسسات والاتحادات والنقابات وغيرها، وهناك لجنة مختصة لتطوير قطاع العدالة في فلسطين، كما يقوم المجتمع المدني بدوره في إضفاء الحيوية على نظامنا السياسي، ولم يبق أمامنا سوى إجراء الانتخابات العامة الديمقراطية." وهو كلام ينم عن انفصام عن الواقع، وعن مخاطبة العالم بلغة ساذجة، أو بلغة تستخف به، وقبله بالفلسطينيين.
من غير المفهوم طلب عقد مؤتمر دولي للسلام مع معرفة الرئيس الفلسطيني أن ذروة ما وصل اليه الوضع الدولي في هذا المجال هو "مؤتمر مدريد" الذي لم ينجم عنه شيء سوى ترسيم إسرائيل في إطار "النظام الإقليمي الشرق أوسطي"، مع تطبيع أو من دونه
فالرئيس ذاته في أواخر الثمانينيات من عمره، وله 18 سنة رئيسا لمنظمة التحرير وللسلطة، ولحركة "فتح"، وهو رئيس لا يحبذ العمل الجماعي، علما إنه حلّ "المجلس التشريعي وحل "مجلس القضاء الأعلى"، وألغى الانتخابات، وهمّش منظمة التحرير، التي لم يعقد مجلسها الوطني، في عهده، سوى دورة واحدة عام 2018 (الدورة السابقة 2009 عقدت فقط لسد الشواغر في اللجنة التنفيذية)، علما أن تلك الدورة (2018) اقتصرت على الخطابات الانشائية، وبعضوية شخصيات باتت في أواخر السبعينيات والثمانينيات؛ فما الرسالة التي توجهها القيادة الفلسطينية للعالم ولشعبها في هذا الوضع؟
باختصار، لم يخرج الرئيس عن النص هذه المرة، لا شكلا ولا مضمونا، فهذا النصّ هو ما يحتمله ويرعاه النظام الدولي، الذي يضمن ويرعى بقاء السلطة الفلسطينية والرئيس عباس ذاته.