اختار الشاعر والروائي السوري سليم بركات "العزلة والانزواء" اختيارا ثابتا، فآثر الابتعاد عن الأضواء، والحوارات الصحافية وجدال الجوائز الأدبية، وصخب مواقع التواصل الاجتماعي ليتفرّغ للكتابة بخط يده، تحديدا، في سعي إلى مراكمة تجربة فريدة بلغتها وعوالمها ومناخاتها، منجزا نحو أربعين عملا يتوزع بإنصاف، تقريبا، بين شعر ونثر.
يكاد الناقد والقارئ معا، يجمعان على وعورة اللغة التي يكتب بها بركات، وعناده في نحت العبارات اللأمالوفة والمفردات الغافية بين سطور القواميس والمجلدات التراثية التي علاها الغبار، دون خشية من المجازفة والتجريب، فأصبحت اللغة هاجس الكاتب يقتحم أسوارها العالية لاقتناص أسرارها وجمالياتها وألوانها، وظلالها ومجازاتها وموسيقاها. وهو على أية حال، في عزلته تلك، لم يتأفّف يوما من العزوف النسبي للنقد عن تناول منجزه، ففي سؤال لكاتب هذه السطور عما إذا كان النقد قد أنصفه، أقرّ بركات: "لا أعرف تقديرا ’مُنصفا’ للموقف، إن ’اتَّهمتُ’ النقد أعفيتُ نفسي، وإن اتَّهمتُ نفسي أعفيتُ النقد. كلانا عنيد: هو يريدني أن أتقدم خطوات في اتجاه آلته مساوما، وأريده أن يتقدم أشبارا في اتجاه لغتي أمينا لأخلاق النقد. لم أُنصف ’النقد’ بإعطائه دفائن الظاهر من خزائن النص ’المُرفَّه’ بالقبول، ولم يُنصفني بقبول ترِكة المقامِر في مجابهاته". معلنا في ثقة: "سأعثر على النقد يوما؛ سيعثر عليَّ".
لا يمل بركات، المولود في القامشلي عام 1951، من العودة الى ذلك المكان المنسي الغائب عن الخرائط، على الرغم من انه لم يعش فيه سوى عقدين، إذ غادره مطلع سبعينات القرن الماضي إلى دمشق التي أقام فيها لفترة قصيرة من أجل دراسة اللغة العربية في جامعتها، قبل أن يتوجه إلى عاصمة أخرى قريبة، هي بيروت، التي ابتليت، بدءا من منتصف السبعينات، بحرب أهلية قاسية دوّن بركات بعض تفاصيلها وأهوالها في روايته "أرواح هندسية"، ثم مضى، مطلع الثمانينات إلى قبرص شريكا لشعب مقهور مثله، هو الشعب الفلسطيني، ليبحث معهم عن قصيدته ووطنه الضائعين، حيث عمل هناك سكرتيرا للتحرير في مجلة "الكرمل" التي كان يرأس تحريرها الراحل محمود درويش، ومن هناك، وفي نهايات القرن الماضي، حمل حقيبته، من جديد، ليستقر في السويد التي يقيم فيها حتى اللحظة.
وثّق بركات جماليات المكان الأول الذي نشأ فيه طفلا وفتى يافعا، في أكثر من عمل مثل "فقهاء الظلام"، و"الريش" و"معسكرات الأبد"، وحتى ثلاثيته "الفلكيون في ثلثاء الموت" (عبور البشروش، الكون، كبد ميلاؤس)، ناهيك بسيرة الطفولة (الجندب الحديدي)، وسيرة الصبا (هاته عاليا، هات النفير على آخره)... ليميل في أعمال لاحقة من قبيل "كهوف هايدراهوداهوس"، "ثادريميس"، "موتى مبتدئون"، "السلالم الرملية" وغيرها إلى تناول تواريخ وأساطير تبدو إغريقية أو اسكندينافية، غارقة في الغرائبية واللامألوف، وهو ما أحدث تباينا وانقساما حيال تقييم تجربته.