في مجتمع لا يكون لك فيه "الحق في الكلام"، لا قيمة فيه للبيان ولا للفصاحة. ولكن، إذا كان لرأيك مكان ومكانة بين الآراء، فإن فن الإقناع يغدو أمرا أساسيا. وحينئذ، ستواجه هذا الاختيار الصعب: أيهما أهم: أن تتكلم بيانا، أم تتكلم صوابا؟ وهل في الإمكان الجمع بين هذا وذاك؟
فلسفيا، نعلم أن أفلاطون كان يؤثر المعنى على المبنى. فهو لم يكن يحب فن الخطابة الذي كان يقرنه بالسفسطة. عيب السفسطائيين في نظره أنهم "يستميلون الناس من طريق الكلام". وجّه صاحب "الجمهورية" انتقادا لاذعا الى هؤلاء الذين كانوا "ينمّقون الكلام"، هؤلاء "الديماغوجيين". الفيلسوفة باربارا كاسان، وهي متخصصة في السفسطائيين، ومترجمة لنصوصهم، تردّ لفظ ديماغوجية إلى كلمة آغوج: و"الآغوج، هي طريقة الهدي والتوجيه والتغيير، طريقة جعل شعب يتطوّر".
ضد أفلاطون الذي كان ينعت السفسطائيين بأنهم يقتصرون على أن يخاطبوا الناس بما يودّون سماعه، وبأنهم كانوا بلغتنا اليوم "شعبويين"، تذهب الفيلسوفة ب. كاسان إلى أنهم كانوا يودّون أن يغيّروا رأيا مسلّما به. فالكلام في اعتقادهم يغيّر، ويخلق موضوعا جديدا. الكلام إنجاز. لا عجب أن تأخذ كلمة ديماغوجية في هذا السياق معنى إيجابيا. المقابلة بين أفلاطون والسفسطائي هي المقابلة ذاتها بين الأنطولوجيا واللغُولوجيا. بين فلسفة تجعل المعاني والمثل أساس الكائن، وأخرى تردّه إلى اللغة. فبينما يعطي أفلاطون السبق للمُثل، فيعتبر وجودها سابقا على اللغة، يعتبر السفسطائيون أن السبق للّغة. بل إن السفسطائيين يطعنون في التفرقة التي يضعها أفلاطون بين إتقان الفكر وإتقان الكلام، بين الفلسفة والخطابة.
ما يغفله أفلاطون في نظر السفسطائيين، هو أنّ البيان ليس موهبة، وإنّما هو تقنيات ومهارات يتعين التمرّس عليها وإتقانها. وهم ينطلقون من كون الكلام ينطوي على قوة ذاتية، وطاقة كامنة
ما يغفله أفلاطون في نظر السفسطائيين، هو أنّ البيان ليس موهبة، وإنّما هو تقنيات ومهارات يتعين التمرّس عليها وإتقانها. وهم ينطلقون من كون الكلام ينطوي على قوة ذاتية، وطاقة كامنة. فعندما تتناول الكلمة و"تأخذ الكلام"، فإن الكلام يأخذك. لذلك كان الارتجال، في نظرهم، أرقى أشكال الخطابة. فهو القدرة على الإبداع اللحظي للفكرة وللكلمات التي ستغلّفها في الآن ذاته، قدرة على الإبداع اللحظي للمعنى والمبنى في الوقت ذاته. الكلام المهيّأ يفقد حرارة التلقائية اللحظية، وغالبا ما يُلقَى بعيدا عن تقمّصه، وعن الحركات والنظرات والإيماءات التي تصاحبه، وعن لحظات الصمت البليغة التي ينبغي أن تتخلّله. لذا هو يبدو باردا مفتقدا الصدق، اعتبارا بأنه قد فقد حياته وحيويته عندما خضع للتشذيب والتنميق. كتب سيوران: "لا أسلوب مع غياب الشك وسيادة اليقين: إن الحرص على جمال اللفظ وقْف على الذين ليس في مقدورهم أن يركنوا إلى اعتقاد راسخ. ففي غياب سند متين، لا يتبقّى لهم إلا التشبث بالكلمات، أشباه واقع، أما الآخرون، الواثقون بقناعاتهم، فإنهم يستَخِفُّون بمظهر الكلمات وينعمون براحة الارتجال". كأنّ إتقان الكلام رهين بالمخاطرة بعدم إتقانه. فليست الخطابة استعراض "محفوظات". قيمتها في استلهام الحاضر، وليس في اعتمادها على الذاكرة. الخطيب البليغ لا يعرف مقدّما ما سيقوله.
الكلام ليس هو الكتابة. كتب باشلار في "شعرية المكان": "في التدريس الشفوي الذي تحركه بهجة التعليم (وتجذبه، والإضافة من عندنا)، قد يُعمل الكلام فكره في بعض الأحيان". الكتابة دوما مصقولة "محرّرة" من كل شوائب. إنها دوما بياض تخلَّص من سواده. لكن، بينما تسمح لنا الكتابة بالصقل والتهذيب، بينما تكون الكتابة "ملكا" لصاحبها، فإن الكلام، كما كتب مونتاني، "نصفه لمن يتكلم، والنصف الآخر لمن يصغي إليه". عقّب المحلل النفسي جاك لاكان على عبارة بوفون: "الأسلوب هو الإنسان" قائلا: "الأسلوب هو الإنسان، الإنسان الذي نتوجّه إليه".
يساهم التعليم المعاصر في شقّ الهوة بين الكلام والكتابة. إنه يهدف إلى أن "يجعل التلميذ يتكلم مثل كتاب". صحيح أن تطوّر الحياة المعاصرة قد أخذ يوجّه الانتباه إلى أهمية الكلام والتمكن من "التعبير الشفوي". تشهد على ذلك مختلف المقابلات التي تنظم لاستقطاب موظّفين جدد، إلا أن امتحانات التعليم لا تزال في أغلبها امتحانات كتابية. وحتى إن اعتمدت بعض المدارس "الشفوي"، فإن ذلك لا يكون إلا فحصا للقدرة على الحفظ و"التحصيل"، وتوصيل معلومات سبق "هضمها".
لا نرى في اللغة مجرد أداة تبليغ. إن منطق التواصل ونقل المعلومات ينزع عن اللغة كل طابع شخصي. حتى إنه قد يسندها إلى آلات
إن جاز لنا اليوم أن نعيد الاعتبار إلى الحركة السفسطائية التي عرفتها أثينا، والتي كانت هي المُحاور الأساس للأفلاطونية، فلكونها كانت تعتبر أن الكلام مجال انبثاق المعنى، وليس مجرد تعبير عنه. فليس الكلام في نظر السفسطائيين مجرد تبليغ لمعنى جاهز، ليس نقلا لأخبار، وتوصيلا لمعلومات. ليست الوظيفة الأساس للكلام هي التبليغ، إذ أن الاقتصار على تبليغ المعاني اختفاء وراء الكلمات. إذا سلّمنا بهذه القدرة، فإننا نستطيع أن نخالف عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو الذي ينتقد قدرة الكلمات وحدها على الفعل، فيبحث من ورائها عن مكانة "الناطق باسمها" وسلطته. وبالفعل يوضح بورديو أن قدرة العبارات على التبليغ لا يمكن أن توجد في الكلمات ذاتها، تلك الكلمات التي لا تعمل إلا على الإشارة إلى تلك القدرة أو تمثيلها على الأصح. يقول: "ما أن نعامل اللغة كموضوع مستقل بذاته، فإننا نحكم على أنفسنا بأن نبحث عن سلطة الكلمات في الكلمات ذاتها، أي بالضبط حيث لا وجود لها". فليست سلطة الكلام إلا السلطة "المفوّضة" لمن أسند إليه أمر التكلّم والنطق بلسان جهة معينة. بل إن بورديو يذهب حتى التأكيد أن قوة الكلمات وسلطتها لا تكمنان في كونها تستخدم مجرد التعبير الشخصي عند من لا يكون إلا حاملا لها ناطقا بلسانها. "فمن عهد إليه أن يكون ناطقا باللسان لا يستطيع أن يؤثّر، من طريق الكلمات، على أعضاء آخرين إلا لأن كلامه يكثف الرأسمال الرمزي الذي وفّرته الجماعة التي فوّضت إليه الكلام، وأوكلت إليه أمر النطق باسمها وأسندت إليه السلطة".
ما كان يمكننا أن نخالف رأي عالم الاجتماع الفرنسي في ما يذهب إليه هنا لولا أننا لا نرى في اللغة مجرد أداة تبليغ. إن منطق التواصل ونقل المعلومات ينزع عن اللغة كل طابع شخصي. حتى إنه قد يسندها إلى آلات. وهذا الطابع الشخصي هو ما رأينا أن الخطيب السفسطائي يعلي شأنه. في هذا المعنى كتب أحد الفلاسفة المعاصرين: "الفرق بين الخطابة وتوصيل المعلومات، هو الفرق بين الرسام والناسخ". الخطيب المرتجِل لا يردد ما سبق أن أعدّه، وإنما يولّد كلمات تصنع المعاني، هذا إن لم نذهب حتى القول مع آخرين بأنها "تصنع الأشياء".