فلسفة الدراجة الهوائيّة

فلسفة الدراجة الهوائيّة

مثلما اشتهر كُتّابٌ ومفكّرون وفنانون بصداقتهم الحميمة والجمالية مع القطط، اشتهر الكثير منهم أيضا بعلاقته الحميمة والفلسفيّة بالدراجات الهوائيّة.

إنّ معظم صُور هؤلاء وهُم على دراجات هوائيّة ليس محض ادّعاء أو التقاط للذكرى كيفما اتفق، بل إنّ مجملهم يمتلكونها فعلا، وهي جزء ضروريّ من أساليب حيواتهم، فبالنّظر إلى كون الدراجة الهوائية صديقة البيئة، على بساطة خلقتها الأنيقة، وخفتها العجيبة المحتكمة إلى توازن لا يمكن الحفاظ عليه إلا بالمزيد من التقدم في دولبة الدواستين، هي في العمق تتناغم مع التوازن النفسي لراكبها خاصة إذا كان قلقا على نحوٍ وجوديّ وفكريٍّ كما ينتاب المبدعين من الركّاب بشكل مضاعفٍ، وهذا التوازن على عجلتين خفيفتيْ الأثر خارجيّا، عظيمتي الأثر داخليّا، يتطابق أو يتماهى مع التناغم المطلوب بين الحسي والفكري، تتخلق عنها متعة خاصّة.

اقترنت أشهر دراجة في تاريخ الفنّ بليوناردو دافنتشي، تلك التي صمّمها وصنعها ساحر عصر النّهضة سنة 1493 وفق اكتشافات مخطوطاته متعددة الاختراعات، قبل أن يُغرم بها كُتّاب وفنّانو القرن التاسع عشر، بعد أن أخذت شكلها المعاصر الأكثر سلاسة وأناقة وتكيّفا مع الشروط العلمية والعملية لاستعمالها اليومي النبيل، ولم يتوقفْ إغواءُ جاذبيتها عند هذا الحدّ الزمني بل استمرّ مع مبدعين لاحقين في القرن العشرين امتدادا حتّى يومنا هذا.

  اقترنت أشهر دراجة في تاريخ الفنّ بليوناردو دافنتشي، تلك التي صمّمها وصنعها ساحر عصر النّهضة سنة 1493 وفق اكتشافات مخطوطاته متعددة الاختراعات، قبل أن يُغرم بها كُتّاب وفنّانو القرن التاسع عشر


ويتبوأ القاص الأوروغوايّي هوراسيو كيروغا أطرف الحكايات حول علاقة الكاتب بالدراجة، وكان قد تنقل بها بين مدينتي سالتو وبايساندو معربا عن انطباعه الموشوم أنّ عامل الجاذبية في الدراجة هو نَقْلُ نفسكَ بنفسك مقوّضا المسافات... بل إنه أقدم سنة 1900 في سالتو على تأسيس نادٍ متخصّص في ركوب الدراجات. وحينما زار فرنسا كان السّبب وفق ما كتبه: "سافرت إلى باريس من أجل الدراجة وحدها".

وقرينه في هذا الولع بالدراجات، الكاتب الاسكتلندي كونان دويل مؤلف سلسلة روايات شارلوك هولمز، الذي يوجز القيمة العلاجية لركوبها في مقولته: "عندما يصبح النهار مظلما، عندما يبدو العمل رتيبا، عندما يصعب الحفاظ على الأمل، ما عليك سوى ركوب دراجة".

ولا يقلّ عن ذلك افتتان صاحب "آلة الزمن"، الكاتب الإنكليزي إتش جي ويلز بالدراجة الهوائيّة التي أفرد لها عنوان كتاب سردي موسوم بـ "عجلات الصدفة". وقد أوجز نظرته ذات النزوع الفلسفي إلى الدراجة في مقولته ذائعة الشهرة: "في كلّ مرة أرى شخصا بالغا على دراجة هوائية لا أشعر باليأس من مستقبل الجنس البشري".

يكفي أن نذكر كتاب جيريمي ويذرز: "حرب العجلات: ويلز والدراجة" كأبدع مثال على علاقة ويلز الغرائبية بالدرّاجة مما جعل كاتب سيرته يرشّحه فائزا بجائزة راكبي الدراجات الأوّل.

وبالمثل كان ولعُ العالم الفيزيائي ألبرت أنشتاين بالدراجة الهوائيّة، حدّ شبّه الحياة نفسها بركوب الدراجة: إذ عليك الاستمرار في الحركة حتى لا تفقد التوازن ويكون سقوطك حتميّا، بل يزعم في حوار آخر أنّه اكتشف نظرية النسبية وهو يسوق دراجته الهوائية، وبذا تعززت فضائل ركوب الدراجات الهوائية بالقيمة الإلهامية أيضا إذ أن المتعة لا تقتصر على جمالية اكتشاف الأمكنة، وتحقق التوازن النفسي والجسدي، بل صارت أيضا فاعلية سحرية لإيقاظ أفكار خطيرة نائمة، أو محرّضا عجيبا لكي تزهر فجأة في الذهن أو المخيلة.

وفي منحى إلهاميتها السّحرية أفصح  القاص الأميركي من أصل أرمني وليم سارويان وهو من هُيّامها في مذكراته بأنّ أسلوب الكتابة تعلّمه من ركوب الدراجة الهوائية، وكذلك أسلوب كل شيء. وهو الكاتب الذي عدّها أنبل اختراع للبشرية.

من يصدّق أن الدراجات استأثرت بإعجاب صموئيل بيكيت هو الآخر، حتّى إنّ شائعة رائجة حول مسرحيته ذائعة العالمية: في انتظار غودو، مستوحاة من راكب دراجة فرنسي بطيء مشهور يُدعى روجر غودو، والذي ربما انتظره بيكيت لمشاهدته في باريس ولم يتحقّق له ذلك.

أوجز ويلز نظرته ذات النزوع الفلسفي إلى الدراجة في مقولته ذائعة الشهرة: "في كلّ مرة أرى شخصا بالغا على دراجة هوائية لا أشعر باليأس من مستقبل الجنس البشري".

ومن الكتاب الأميركيين الذين عُرِفَتْ بهم باريس هنري ميلر وكان راكب دراجات شغوفا وعاشقا لمسابقات ركوب الدراجات منذ يفاعته وقد أفرد لها نصّا بعنوان "دراجتي وأصدقائي الآخرون".

في فرنسا دائما لسيمون دو بوفوار حكايات بقدر ما هي سوداء هي ممتعة مع الدراجة كما وثّقتْ لحوادث في مذكراتها أطرفُها عن فقدانها لسنّها بسبب سقوطها من الدراجة.ولعلّ شغفها هذا كان أحد أسبابه الدامغة هو أنّ الدراجة ساهمت في تحرير المرأة أكثر من أي شيء آخر في العالم كما تقول الناشطة النّسوية الأميركية سوزان ب. أنتوني والإشارة هنا تاريخية لقائمة محظورات 1895 بأميركا جعلت من الدراجة بالنسبة للنساء وسيلة رئيسية للتحرير.

في ما اختتم مواطن هذه الأخيرة الكاتب مارك توين نص "ترويض الدرّاجة" بالقول الصادح: "احصلْ على دراجة ولن تندم أبدا" ما أشبهه بالقول المأثور: لا يمكنك شراء السعادة، ولكن يمكنك شراء دراجة!

ومن الأرجنتين اقترنت الدراجات بالكاتب خوليو كورتاثار وقد كان من راكبيها المولّهين، أفرد لها قصة قصيرة بعنوان: "يُحظر إدخال الدراجات". وقد كان كورتاثار من نخبة الكُتاب الذين شملتهم مختارات رسومات "كتاب على دراجة" لفيرجينيا هيريرافضلا عن دوستويفسكي، بو، فيرجينيا وولف، بورخيس، همينغواي، بولانيو...إلخ

وفي الشعر خلّد الإسباني رفائيل ألبرتي في منفاه دراجته الهوائية، متغزلا بها في نصّ مفرد لها بعنوان "أغنية الدراجة الهوائيّة" مطلعه: "في الخمسين من عمري، اليوم، لدي دراجة/ كثيرون لديهم يخت/ والعديد لديهم سيارة/ وهناك من لديه طائرة بالفعل/ لكني، وأنا في الخمسين من عمري فقط، لا أملك سوى دراجة واحدة".

وغير بعيد صدحتْ الشاعرة والمغنية الأميركية باتي سميث وهي من اللواتي شكلت لهن الدراجات مصدر حلم:

تعال على دراجتك الصدئة/ تعال، سنكسر كل القواعد/ سنركب كما يركب الكتّاب/ لا أغنياء ولا مفلسين/ سنتسابق عبر الأزقة في عباءاتنا الممزقة".

كأنّما تُذكّرنا بدراجة الشاعر المغربي عبد الله زريقة في ديوانه "فراشات سوداء"، ومفتتحه: "ودراجة الشاعر فوق الورقة، والحمامة بين أسلاك العجلة".

لهذا وذاك يترف ألبوم الصور للعديد من الكتاب مع دراجاتهم الهوائية، منذ ما قبل تولستوي حتّى ما بعد إيتالو كالفينو... لا كاحتفالية فوتوغرافية وحسب، بل تقديرا لتلك العلاقة الجمالية والفلسفية آنفة الذكر.

لن يكون من العدل أن نختتم هذا الموجز حول شعرية الدراجات دون أن نلتفت إلى الدرّاجين المُحترفين من غير الكُتّاب، ومنهم البطل البريطاني مارك كافنديش الذي أعرب في حوارٍ عمّا يُكثّفُ عن تجربةٍ ما سبق أعلاه:

"بالنسبة إلي، لا يهمّ إذا كانت السماء تمطر أو كانت الشمس مشرقة أو أي شيء آخر: طالما أنني أركب دراجة، فأنا أعلم أنني الرجل الأكثر حظا في العالم".

font change