الأثر الأول هو صورة القدس وتمثّلاتها لدى المغاربة، أو القدس بعين مغربيّة، ومنشأ سيرتها ليست طارئة أو لاحقة، وليدة سراب اليوم، ولا ثمرة ما استجدّ من التاريخ المحدث، بل شبه أزليّة، غائرة أصلاب شجرتها الوارفة في ذاكرة ما تقادم وتعتّق بالنظر إلى متون الرحلات المغربيّة وطروسها المنسيّة التي قام بها متصوّفة وشعراء وأئمّة وسفراء، فضلا عن العوامّ من المغرب إلى القدس في فترات متباينة ومتباعدة، تقاس بالقرون وليس بالسنوات. منذ ما قبل الغزو الصليبي، حتّى الآن.
فمواكب الرحّل من الشمال الأفريقي إلى الحجاز من أجل الحجّ، لا يكتمل معنى مزارها عند الكثير إلا برحلة مضاعفة إلى القدس عبر الشام، وهكذا كان هؤلاء ييمّمون بوجوههم شطر مدينتي القدس والخليل بعد أن يستوفوا أمّ القرى ما يليق بها من طقوس.
مشجعون فلسطينيين يحتفلون بفوز المغرب بمباراة كرة القدم خلال كأس العالم
والرحلة ليست للصلاة وحدها (بالضرورة)، بل هي مغامرة شخصيّة، وجوديّة، استكشافية، معرفية، علمية وأدبيّة في آن واحد، وعليه فالمجازفة في ما وراء تلك الحدود، تجشّما لأخطار متاهات الصحراء وأحيانا أنواء البحر العاتية، ينسى صاحبها رعب المشقة بمجرّد أن يبلغ المكان المرغوب بافتتان، فيقيم فيه مبهورا لفترة، يستقصي جمال عمرانه وغرابة هندسته واختلاف طبيعته وتعدّد أعراقه وأطيافه الإنسانية والمغاير من معارفه... إلخ.
ما يعنينا من الإشارة إلى نماذج من هذه الرحلات، هو قيمة ما تكتنزه من رصد جغرافيّ، ورسم بيانيّ، وتوصيف عمرانيّ، وتعداد أجناسيّ، لما كانت عليه مدينة القدس قبل الغزو الصليبيّ وإبّانه وبعده في الفترة الأيوبيّة والفترة العثمانية والفترة المملوكية.
إنّ صورة القدس لدى معظم الرحّالة المغاربة مبهرة، غرائبيّة، وسحريّة، وبخاصّة في ما يتعلّق ببناء المدينة القائم على الصخر ومن الصخر، يتماهى مع فسيفسائها التسامح الإنساني الذي دمغ العلاقات الاجتماعية بين مجمل الأعراق والأطياف، ضمن جوار متعدّد، خَلَقَ فيه المقدسيّون النموذجَ الأمثل للتعايش، مرتقين بعاصمتهم الروحية، مدينة الله، إلى صفوة أولى الحواضر الكوزموبوليتية في التاريخ على الإطلاق، وَحَسبها أن تفرّدت ثقافيّا ومعرفيا باستقطابها لألمع مفكّري تلك الحقب، من أولياء ومتصوّفة ولاهوتيّين ومؤرّخين، فكان عبورها محض تلاقح صاخب بين مجمل أقطاب العلم محاورة، ومناظرة، وجدالا، وسجالا، كان لأثره الفكريّ فضيلة صناعة أبكر قيم الحوار بين الثقافات.
رؤية مشتركة
فلدى هؤلاء الرحّالين المغاربة الرؤية المشتركة حول عمادة الصخر الذي جبلت منه المدينة، وشمخت عليه صرحا مبهرا، وهم بالتعاقب: الإمام عبد الله بن العربي، من أوائل الرحالين الأندلسيّين والمغاربة في عهد الدولة المرابطيّة، يزورها سنة 1092، والشريف الإدريسي في العهد الموحّدي، إذ قام هو الآخر برحلة تاريخيّة إلى مدينة القدس سنة 1154، وأبو إسحاق إبراهيم المكناسيّ في القرن الثالث عشر الميلادي، وابن مدينته أبو عبد الله المكناسي من القرن ذاته، وأبو عبد الله محمد العبدري الحيحي أواخر القرن السابع عشر، ثمّ عميد الرحالين قاطبة، ابن بطوطة في العهد المريني، مرّة أولى سنة 1325، المزامن لعصر المماليك، ومرّة ثانية سنة 1348، والبلّوري سنة 1337، والعلامة ابن خلدون سنة 1348، وأبو عبد الله محمد بن الأزرق الغرناطي المالقي سنة 1490 الذي مات فيها سنة 1491، والمقرّي بداية العهد السعدي، وحفيده المقري أبو العباس سنة 1620، كذلك العياشي في العهد الأول للعلويّين، والسفير ابن عثمان المكناسي سنة 1788، وأبو القاسم الزياني...إلخ.
من أبكَر الوصف لمدينة القدس في الرحلات أعلاه، ما كتبه عبد الله بن العربي: "وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول، وكان الناس يقولون: مسخت صخرة، والذي عندي أنها صخرة في الأصل وقطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء وكل ما حولها حجارة مثلها، وكان ما حولها محفوفا بقصور، وقد نحتت في ذلك الحجر الصلب بيوت أبوابها منها ومجالسها منها".
المنحى ذاته تتاقسمه الرحلات المتعاقبة، معزّزة شموخ هذه الرؤية خاصّة ما دوّنه عبد الله محمد العبدري الحيحي، وما أسهبَ فيه عميد الرحّالين قاطبة ابن بطوطة في رسم صخرة القدس بأبلغ التحرّي، وما فصّلت فيه رحلة البلّوري ضمن أمتع المزارات التي اهتمّت بفسيفساء القدس، منمنماتها ومنقوشاتها وتبويبها. غير أنّ رحلة العياشي في العهد الأول لدولة العلويين جاءت مستوفية لمزاراتها إذ أفرد لها تدوينا شاملا، لم يغفل فيه غرائبيّةَ الصخرة، وبعدها رحلة السفير ابن عثمان المكناسي التي فصّلت وبأَّرَت الدقة في رسم خرائط المدينة ووفرة أنساب الوجود الإسلامي فيها، فضلا عن الوجود المسيحي.
القدس الشرقية
إنّما المشترك في كلّ هذه الرحلات، هو نزوع الافتتان بغرابة المدينة شكلا وهندسة وأعراقا وأطيافا ومدارس علمية وفكريّة، تجعل منها علامة حضارية كبرى ممهورة بختم عربيّ/ شاميّ/ فلسطينيّ، لا يلغي التعدّد الإنساني الحاصل في البلدة من جهة، ومن جهة ثانية نزوع الافتتان بغرابة جماليات المدينة الناهضة على الصخر وعلى نحو خاصّ رمزية صخرة البيت، بالتوصيف ذاته، المتناغم مع حالها ومآلها في القرن العشرين والى الآن، عودا دائريّا إلى ما ألمعنا إليه بدءا في التوطئة، عند بطل جبرا إبراهيم جبرا، في روايته "السفينة":
"والعرب، ما الذي ابتنوه ليكون من أجمل ما ابتنى الإنسان من عمارة؟ قبة الصخرة".
مغاربة القدس
الأثر الثاني له علاقة بمغاربة القدس الذين حاربوا مع صلاح الدين الأيّوبي، وساهموا بقوّة في تحرير عكّا والقدس بعد معركة حطين، وكافأهم ابنه الأفضل بحيّز شهير في تشكيل فسيفساء الفضاء، مفردا لهم حارة سمّيت باسمهم هي "حارة المغاربة" جنوب شرق البلدة القديمة عند حائط البراق، وقد ذاع صيت بعض منشآتها العلمية كالمدرسة الأفضليّة، والمدرسة الفخرية وزاوية المصمودي وغيرها.