جاء اندلاع الحرب السودانية بين قوات الجيش وميليشيا "قوات الدعم السريع"، في 15 أبريل/نيسان الماضي كآخر مظاهر عدم الاستقرار السياسي الذي عانى منه السودان الحديث. وأدت هذه الحرب إلى دمار غير مسبوق محا عن الوجود أي أثر باقٍ لدولة ما بعد الاستعمار في السودان. ولكن هذه الحرب كانت آخر وأقسى مراحل مرض "الحلقة الشريرة" التي أحاطت بالسودان منذ تأسيس دولته المستقلة الحديثة.
لقد تأسست الدولة السودانية الحالية بعد نيل السودان لاستقلاله عن الاستعمار الثنائي الإنكليزي المصري، والذي استمر منذ عام 1889 حتى تاريخ الاستقلال في الأول من يناير/كانون الثاني 1956. ولكن داء عدم الاستقرار كان قد بدأ قبل ذلك؛ حيث اندلعت الحرب الأهلية الأولى في السودان عام 1955، بين الحكومة المركزية في الخرطوم وضباط من جنوب السودان الذين كانوا يطالبون بمزيد من الحكم الذاتي والاستقلالية لمناطق جنوب السودان. وكان اندلاع هذه الحرب هو المؤشر الأول على دخول السلاح كعامل أساس في السياسة السودانية بعد فشل نخبة آباء الاستقلال في التوصل إلى حل سياسي مرضٍ لجميع مواطني البلاد في كيفية تمثيلهم في إدارة شؤونها بعد الاستقلال.
وكانت الحكومة الوطنية الأولى برئاسة السيد إسماعيل الأزهري الذي رفع علم استقلال البلاد كأول رئيس وزراء في العهد الوطني، ولكن لم تلبث هذه الحكومة أن واجهت أول محاولة انقلابية في يونيو/حزيران 1957 في أقل من عامين من الاستقلال؛ حيث تحركت مجموعة من الضباط وطلاب الكلية الحربية بقيادة إسماعيل كبيدة حينها للانقلاب على حكومة إسماعيل الأزهري ولكن تم إحباط محاولتهم. وشهد العام التالي أول انقلاب ناجح تم بقيادة قائد الجيش حينها، الفريق إبراهيم عبود، والذي استولى على السلطة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1958. ولا يزال الجدل السياسي محتدما حتى الآن، عما إذا كان الفريق عبود والجيش قد استوليا على السلطة من تلقاء نفسيهما أم بإيعاز من رئيس الوزراء حينها الأميرال عبدالله خليل والذي كان يرى أن الخلافات السياسية في وقتها ستضعضع سيطرته- أو نفوذ حزبه- على مقاليد الأمور في البلاد.
وقد استمرت حكومة عبود العسكرية سبع سنوات، جرت خلالها عدة محاولات انقلابية فاشلة، ولكن جاءت نهايتها مع انتصار الثورة الجماهيرية التي قادها طلاب جامعة الخرطوم في أكتوبر/تشرين الأول 1964، والتي كانت شرارتها في نقاش جذور وحلول مشكلة الحرب الأهلية في الجنوب. وعادت الديمقراطية البرلمانية للبلاد مرة أخرى ليتم انتخاب إسماعيل الأزهري كرئيس لمجلس السيادة ومحمد أحمد المحجوب ثم الصادق المهدي كرؤساء للوزراء في فترة اتسمت بالاستقطاب السياسي الآيديولوجي والذي تزاديت حدته حتى وصل إلى تصويت البرلمان على تعديل الدستور بتغيير المادة (5) الفقرة (2) من دستور السودان الانتقالي المعدل 1964، والمتعلقة بالحريات العامة ومن بينها حرية الرأي والتجمع والتنظيم السياسي.