بعد مُضي أكثر من عام ونصف العام على الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، لا يزال القتال محتدما دون أن تلوح في الأفق أي نهاية له. ويستمر الهجوم الأوكراني المضاد الذي تواصل على مدار أشهر، في وقت يستعد فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحرب طويلة الأمد. ويحلو لبوتين تصوير هذه الحرب على أنها معركة وجودية مع الغرب من أجل بقاء روسيا. وكما أوضح بوريس بونداريف، الدبلوماسي الروسي الذي استقال احتجاجا على غزو أوكرانيا، فإن هذه الحرب من وجهة نظر بوتين هي بمنزلة "تتويج لمواجهة ملحمية وأبدية جارية بين روسيا المستقلة، وعدوها الأبدي، الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة".
ويميل جمهور الشرق الأوسط للنظر إلى الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا باعتبارها حدثا مستجدا يقتصر في المقام الأول على أوروبا. لكن على العكس من ذلك، فإن الحرب هي أحدث خطوة في استراتيجية الكرملين المناهضة للغرب، والتي امتدت على مدار عقدين من الزمن، واتسعت إلى عدة مناطق أخرى في العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط والقوقاز والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. وفي ظل تصاعد التوتر الحاصل الآن بين أرمينيا وأذربيجان، إلى جانب اصطدام الحكومة الجورجية المتزايد مع الكرملين، فإن جنوب القوقاز- وعلى وجه الخصوص جورجيا– يشكل الجزء المهم المفقود في محاولة فهم كيفية وصول روسيا إلى هذا المآل. وإن جاز التعبير، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا بدأ في جورجيا أغسطس/آب من عام 2008.
العالم متعدد الأقطاب والبحر الأسود
يعود السبب الرئيس الكامن خلف العداء الحالي الذي تبديه موسكو تجاه الولايات المتحدة إلى انهيار الاتحاد السوفياتي عقب الحرب الباردة. ولم يكن بوسع النخب الحاكمة في روسيا أن تتقبل أن تكون خسارة بلادها في أعظم منافسة جيو- استراتيجية في القرن العشرين الفصل الأخير من القصة. فسعت تلك النخب للحصول على فرصة أخرى في هذه المنافسة. وفي منتصف التسعينات، صاغ وزير الخارجية الروسي الراحل يفغيني بريماكوف رسميا رؤية لعالم متعدد الأقطاب باعتباره مسار السياسة الخارجية الروسية وبديلا عن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين على الأقل، يسعى الكرملين جاهدا إلى إعادة ترسيخ مكانة روسيا الدولية، والتي فقدتها بعد انتهاء الحرب الباردة، مع تركيزه في نهاية المطاف على تحدي التفوق الأميركي في الشؤون العالمية على وجه العموم، وإعادة التفاوض بشأن النظام الأمني الأوروبي على وجه الخصوص.