ماذا حدث بعد أوسلو؟
أين تايوان... أو سنغافورة... أو هونغ كونغ فلسطين؟https://www.majalla.com/node/300151/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A3%D9%88%D8%B3%D9%84%D9%88%D8%9F-%D8%A3%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D8%A7%D9%8A%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%A3%D9%88-%D8%B3%D9%86%D8%BA%D8%A7%D9%81%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D9%88-%D9%87%D9%88%D9%86%D8%BA-%D9%83%D9%88%D9%86%D8%BA-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D8%9F
في ترويجها لـ"اتفاق أوسلو" (1993)، الذي وقعته بعد مفاوضات سريّة مع إسرائيل، وخارج الأطر القيادية والتشريعية، حاولت القيادة الفلسطينية التنظير له كوعد بتايوان، أو سنغافورة، أو هونغ كونغ في المنطقة، بما يتجاوز إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع.
بيد أن الأحلام والطموحات والرغبات شيء، أمّا الواقع والإمكانيات والمعطيات فهو شيء آخر، فما إن انتقلت "الحركة الوطنية الفلسطينية"، ببنادقها، من الخارج إلى الداخل، وأقامت سلطتها، حتى اصطدمت بواقع مختلف تماما، فإسرائيل تسيطر على كل شيء، وهي صاحبة القرار، فالاتفاق العتيد لم يصف إسرائيل كدولة احتلال، ولا اعتبر الضفة وغزة أراضي محتلة، بما فيها القدس، ولم ينص على إنهاء الاستيطان، أو ترسيم الحدود، أو تحديد ماهية الحل النهائي.
على ذلك، يمكن تعيين تأثيرات "اتفاق أوسلو" على "الحركة الوطنية الفلسطينية" في أربعة جوانب رئيسة؛ الأول، يتعلق بالتحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال. والغريب أن هذا التحول لم يؤد إلى أي مراجعة من قبل الكيانات السياسية الفلسطينية، التي تخشبت، أو ظلت تعيش، على مفاهيم وكيانات وأشكال عمل متقادمة، من مرحلة ما قبل "أوسلو"، مع ملاحظة الضمور الحاصل فيها في كل المجالات.
الجيوب الفلسطينية حل وسط إسرائيلي داخلي، بين الرغبة في رؤية الفلسطينيين يختفون عن الخريطة، وبين الإدراك بأنه لا يمكن تكرار ما حدث في 1948 لأسباب جيوسياسية؛ أي طردهم؛ فالحل وضعهم في جيوب
ومفهوم هنا أن اعتبارات السلطة، في العلاقة مع إسرائيل، وفي علاقة الكيانات السياسية ببعضها البعض، وفي علاقتها مع المجتمع الفلسطيني، تختلف عن اعتبارات "حركة التحرر الوطني". القصد أن الفلسطينيين، إزاء كياناتهم السياسية، لم يعودوا أمام أبناء حركة تحرر وطني، وإنما إزاء سلطة عليهم، والأقسى أنها سلطة تحت الاحتلال.
أي إن الفلسطينيين، في الداخل، باتوا تحت عدة سلطات: السلطة الإسرائيلية، والسلطة الفلسطينية (في الضفة وغزة)، وسلطة المستوطنين التي تنازع السلطتين، على ما نشهد راهنا.
والفكرة الثانية هنا، أن الفلسطينيين كانوا قبل إقامة السلطة، أي قبل "أوسلو"، أكثر وحدة وتحررا وجرأة في مواجهة إسرائيل منهم بعد إقامتها.
تفكيك مفهوم الشعب الفلسطيني
أما التحول الثاني، فهو يتعلق بتغيير السردية الوطنية الفلسطينية الجامعة، من سردية كانت تتأسس على النكبة (1948)، أي إقامة إسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين، إلى سردية تقوم على حق تقرير المصير لجزء من الشعب الفلسطيني في جزء من أرض فلسطين (الضفة وغزة)، مع جزء من حقوقه، أي من ملف 48 إلى ملف 67.
وهو أمر نجم عنه تفكيك مفهوم الشعب الفلسطيني، كشعب واحد بسردية واحدة، في محاولة اقتراب، أو خضوع، تجاه الرواية الإسرائيلية، وهو وضع شوّش على صدقية، وعدالة قضية فلسطين في الرأي العام العربي والعالمي، كما أثر في تشريع عمليات التطبيع مع إسرائيل بين أسباب أخرى.
وبخصوص التحول الثالث، فهو يتمثل في تحلل، أو أفول، الكيانات السياسية الجامعة، بعد تطبيق "اتفاق أوسلو"؛ إذ إن إقامة السلطة الفلسطينية، مع انتقال الطبقة السياسية الفلسطينية بكاملها إلى الداخل، ومع جمع القيادة الفلسطينية- في ظل الرئيس الراحل ياسر عرفات، والحالي محمود عباس- الرئاسات في شخصيهما، أدى إلى تهميش "منظمة التحرير الفلسطينية"، ككيان جامع للشعب الفلسطيني (رغم النقص الناجم عن استبعاد فلسطينيي 48 من التمثل داخلها قبل ذلك)، لصالح السلطة، وأدى ذلك- مع التغير في سلم الأهداف من التحرير وعودة اللاجئين، لصالح إقامة دولة الفلسطينية- إلى إخراج اللاجئين الفلسطينيين من المعادلات السياسية، حيث بات قسم آخر من الشعب الفلسطيني خارج الحسابات، وخارج التشكيلات السياسية المركزية (فلسطينيي 48، والفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات)، وخارج التفاعلات السياسية الفلسطينية التي باتت تتمحور حول الكيان السياسي الناشئ في الداخل.
إقامة السلطة الفلسطينية، مع انتقال الطبقة السياسية الفلسطينية بكاملها إلى الداخل، ومع جمع القيادة الفلسطينية- في ظل الرئيس الراحل ياسر عرفات، والحالي محمود عباس- الرئاسات في شخصيهما، أدى إلى تهميش "منظمة التحرير الفلسطينية"، ككيان جامع للشعب الفلسطيني
التحول الرابع؛ إذ إن تشوّش الرواية الجامعة عند الفلسطينيين وأفول كياناتهم السياسية الجمعية وإقامة السلطة تحت الاحتلال، أدى إلى تفكك مفهوم الشعب، في كل تجمع، في رؤيته لذاته، وحاجاته، وأولوياته، وقد فاقم من ذلك طريقة عمل القيادة، والانقسام بين الضفة وغزة، وبين سلطتي "فتح وحماس"، لا سيما مع استثمار إسرائيل لكل ذلك، واعتمادها سياسة الفصل بين الفلسطينيين، سياسيا وجغرافيا وأمنيا وقانونيا.
حيث لم يعد الفصل بين الداخل والخارج فقط، وإنما أيضا بين غزة والضفة والقدس و48، وفي الضفة نفسها بين القرى والمدن والمخيمات، وبين الفقراء والأغنياء، وكل ذلك في ظل غياب تفاعلات، أو حراكات فلسطينية للجسر بينها، أو وضع حلول لها، لا سيما مع قيادات، وكيانات، لم يعد لديها ما تضيفه، ومع عجز "الحركة الوطنية الفلسطينية" عن تحقيق إنجازات، رغم كل التضحيات والبطولات التي يبذلها الشعب الفلسطيني، ومع خلق طبقة وسطى، تميل نحو الحفاظ على مصالحها، في ظل تفشي ثقافة الاستهلاك، والخلاص الفردي، واللامبالاة، نتيجة خيبات الأمل وفقدان الثقة في القيادات والكيانات السائدة.
باختصار، لقد نجمت عن مركبات وآليات وديناميات "اتفاق أوسلو" أوضاع تقطع مع كل تراث وتجربة وخطابات وبنى "الحركة الوطنية الفلسطينية"، بالشكل الذي كانته في الخارج، بما فيه علاقاتها ببعضها البعض، وعلاقاتها مع شعبها في إطار الإقليم الذي يخضع لسلطتها (المحدودة).
مكاسب إسرائيل
أما من زاوية إسرائيل فقد وجدت نفسها، بعد الاتفاق، في واقع احتلال مريح ومربح، كأنها غسلت يديها من كونها دولة محتلة، فالصراع يدور بين "حقين" وشعبين على الأرض ذاتها (الضفة فقط)، وقد تمكنت من تجويف "الحركة الوطنية الفلسطينية"، وأخذها إلى مربعها في روايتها عن ذاتها، واعتراف تلك الحركة بها، وبتحولها إلى سلطة على شعبها.
في كشف حساب للمحلل الإسرائيلي، سيفر بلوتسكر، بعد ثلاثة عقود من "اتفاق أوسلو"، يقول: "ارتفع عدد الدول التي اعترفت بإسرائيل من 110 دول عام 1993 إلى 166 دولة اليوم، وعدد المستوطنين في الضفة من 115 ألفا إلى 485 ألفا (دون القدس)، اختفت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين عمليا... وانخفضت نفقات أمن الدولة من 11 في المئة إلى 5 في المئة... وارتفع مستوى المعيشة الحقيقي للعائلة الإسرائيلية". (يديعوت، 3/9/2023). علما بأن الناتج المحلي لإسرائيل بلغ عام 1993، 100 مليار دولار، وقد أضحى اليوم 522 مليار دولار.
وترى الكاتبة والصحافية السياسية الإسرائيلية عميرة هس أن "اتفاق أوسلو" كان نجاحا إسرائيليا مدويا، "لم يتم ذكر أي هدف محدد مثل دولة، أو مناطق، أو حدود... وشكل الاتفاق مفتاحا لأسواق عالمية، بما في ذلك أسواق عربية... وتم إعفاء إسرائيل من مسؤوليتها عن احتلال السكان الواقعين تحت الاحتلال وعن رفاههم".
وفي الوقت نفسه، احتفظت لنفسها بالزبدة: صلاحيات السيطرة على الأراضي والمياه والفضاء البري والفضاء الإلكترومغناطيسي في البحر، والجو، وحرية الحركة، والاقتصاد، والحدود (الخارجية وحدود كل جيب جغرافي)... ومختبر تجرب وتطور فيه فرع التصدير المهم: السلاح، والذخيرة، وتكنولوجيا التعقب، والسيطرة... ويواصل الفلسطينيون كونهم خزانا لقوة عمل رخيصة ومربحة لإسرائيل برعاية أقوال تقطر العسل مثل السلام والازدهار وسنغافورة؟
منذ الأشهر الأولى، استنتجت أن نية إسرائيل هي إخضاع الفلسطينيين وليس السلام... الجيوب الفلسطينية هي حل وسط إسرائيلي داخلي، بين الرغبة في رؤية الفلسطينيين يختفون عن الخريطة، وبين الإدراك بأنه لا يمكن تكرار ما حدث في 1948 لأسباب جيوسياسية؛ أي طردهم؛ فالحل وضعهم في جيوب.الخلافات في الرأي بين المعسكرات الصهيونية المختلفة ليست على الجوهر، بل على عدد الجيوب الفلسطينية وحجم كل واحد منها". (هآرتس، 8/9/2023).