من الوثائقيات الجديدة المهمة التي تبثّها منصة "نتفليكس" هذه الأيام، سلسلة بعنوان "العيش لمئة عام: أسرار المناطق الزرقاء" يقدّمها الدكتور دان بيوتنر المستكشف الذي قضى عشرين عاما وهو يدرس ويلقي المحاضرات خلال بحثه عن الأشخاص الأطول عمراً في هذا العالم. إنه يلاحقهم حول العالم كمن يبحث عن جزيرة الكنز أو عن حجر الفلاسفة، فهم بالنسبة إليه أكبر كنز يرجى التشارك فيه. فيلتقيهم ويجلس بين أيديهم جلسة التلميذ عند الأستاذ، حتى وإن كانوا ممن لم يتلقوا تعليما أبدا، ويتعلم حكمتهم بغرض محاولة تعميمها على العالم، خصوصا بلاده الولايات المتحدة الأميركية.
هناك مقارنات متعدّدة بين أميركا والمناطق التي تكثر فيها نسبة المعمّرين تظهر أن النظام الغذائي الأميركي ضار بالصحة للغاية، ولعل هذا هو الدافع الأقوى الذي دفع دان بيوتنر إلى هذه المغامرة الاستكشافية، أي تصحيح المفاهيم الخاطئة والمعلّبة عن النظام الغذائي في بلاده. ماذا عن نظامنا نحن الغذائي؟ هل هو صحي بقدر كاف؟
ليس غرض بيوتنر البحث المجرد عن المعمّرين، فطول العمر وحده ليس بغاية، فمن ذا الذي يريد حياة طويلة مع الأمراض؟ من ذا يريد طول العمر مع الخرف والوجع والعجز والآلام المتنوعة، جسدية ونفسية؟
استند الدكتور بيوتنر في بحثه إلى بقع زرقاء وضعها أحد زملائه على خريطة العالم تشير إلى أماكن وجود أكثرية المعمّرين الأصحّاء، هذه هي الفكرة الجوهرية في مشروع هذا المستكشف وقد قضى حياته في تعلّم نمط حياتهم، ومحاولة الإجابة عن السؤال السحري: لماذا يعمّرون؟ لا علاقة للمعمّرين بطبيعة الأرض من الناحية الجغرافية أو البيئية، فقد تجدهم في الجبال كما في جزيرة سردينيا – إيطاليا، وقد تجدهم في جزيرة ترابية مثل أوكيناوا اليابانية، وقد تجدهم في المدن، كالحال في أميركا.
كثير من الناس يعيش فحسب. وُجِد فعاش ثم مات، دون أن يتساءل: هل عشتُ فعلا؟ أم أنني فقط كنت موجودا، رغم أني لم أعش، فثمة فرق كبير بين مجرد الوجود والعيش
وقد ورد ذكر أوكيناوا اليابانية في دراسة لمنظمة الصحة العالمية، لأنها أنجبت أكثر المعمرين في تاريخ العالم. فهي أرض الخالدين، وهذا ليس بسرّ، بل حقيقة متداولة منذ مئات السنين. تحتوي أوكيناوا على عدد من الجزر الاستوائية حيث المياه التركوازية والشواطئ الرملية البيضاء، لكن هذه الصفات ليست خاصة بأوكيناوا، فما الذي جعلها مميزة؟ بين سكان أوكيناوا عدد قليل جداً من مرضى السكري، ومعدّل الإصابة بأمراض القلب لا يكاد يصل إلى خمس المعدل العالمي، ونسبة الإصابة بالخرف قليلة للغاية، وكثير منهم يتجاوزون المئة عام. ووردت على لسان أحد المعمّرين الذين التقاهم بيوتنر، مجموعة من النصائح التي يمكن أن نلخصها في: لا تغضب... استمتع دائماً... أسعد من حولك... تسامح مع الآخرين وكن سهل المعشر... وعليك بالضحك فإنه لا يميت القلب بل يجلب طول العمر... انتبه الى طعامك وقلل اللحوم الحمراء أو استغن عنها إن استطعت. والأهم من هذا كله: النيات الطيبة والمشاعر النقية فالقلب الممتلئ بالكراهية يملأ الجسد بالأمراض. هذه هي وصية المعمّرين للبشر.
لا بد من الصحة الجيدة ليكون طول العمر جيدا، ولا بد أيضا من أن نضيف الحياة البهيجة التي تستحق أن تعاش. كثير من الناس يعيش فحسب، وُجِد فعاش ثم مات، دون أن يتساءل: هل عشتُ فعلا؟ أم أنني فقط كنت موجودا، رغم أني لم أعش، فثمة فرق كبير بين مجرد الوجود والعيش.
لذا ينبغي أن تفرّ من هذا السؤال الذي سيأتي حتماً، بأن تعيش فعلا، حتى إذا طرح عليك السؤال يوما، يكون لك أن تقول: نعم، لقد عشت سعيدا، عشت حياة تستحق أن تعاش.