حسين منذر... عاشق فلسطين الذي رفض الغناء مع فيروزhttps://www.majalla.com/node/300126/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%86%D8%B0%D8%B1-%D8%B9%D8%A7%D8%B4%D9%82-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%B1%D9%81%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D8%B9-%D9%81%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%B2
حين أسّس المغني اللبناني من أصول فلسطينية حسين منذر الملقب بـ "أبو علي" (1962-2023) "فرقة العاشقين" التي تُعنى بتقديم الغناء الثوري الحماسي الملتصق بالثورة الفلسطينية في 1978 وصار قائدها، كانت مساحة القضية الفلسطينية تغطي عاطفيا وسياسيا العالم العربي بأسره بتفاوتات وتباينات مختلفة، ولكنها كانت جزءا أساسيا من النقاش والمزاج العامّين.
وفي مثل هذا الجو كان مشروع حسين منذر يلتقط هذا المزاج العام ويوظفه ولم يكن محتاجا إلى صناعته أو الدفاع عنه، بل كان يلاحقه ويتبعه. وقد حرصت أغانيه على الانتساب إلى الشأن الفلسطيني ولم تفكر في أن تصنع مزاجا مستقلا عنه.
على العكس من ذلك لم يشأ حسين منذر إلا أن يكون منشد الحماسات والأحزان المرئية والمسموعة والمباشرة، أو تلك التي تقفز من الذاكرة لتشترك مع الحاضر في تركيب المعاني والأفكار والمشاعر، وفي التأسيس للانفعالات والمواقف والسياسات.
لم يكن اختيار حسين منذر اسم "فرقة العاشقين" عبثيا أو محاولة لشعرنة المشروع وتحميله بثقل عاطفي بقدر ما كان تحديدا لدور وسمات وسلوك ووظيفة، وتثبيتا لمشهد لم يفارق حضوره المسرحي وتعبيراته طوال حياته
في ذلك الموقف الذي طبع سيرة هذا الرجل ما يدعو إلى النظر والتأمل، إذ إن هذا النوع من السير لم يعد قائما في وقتنا الراهن أو لم يعد ممكنا تصوره.
لم يكن اختيار حسين منذر اسم "فرقة العاشقين" عبثيا أو محاولة لشعرنة المشروع وتحميله بثقل عاطفي بقدر ما كان تحديدا لدور وسمات وسلوك ووظيفة، وتثبيتا لمشهد لم يفارق حضوره المسرحي وتعبيراته طوال حياته. دور العاشق حوّله وأغانيه التي ربت على 300 أغنية طوال مسيرته، إلى ما يشبه نداء طويلا للمعشوق يحفل بكل ما في العشق من تموجات وآلام وأحوال تتفاوت درجتها وشدّتها وقوة حضورها.
مشاهدة منذر على المسرح تكشف عن كائن غائب في موضوعه وفي عشقه، وكأنه كان يريد أن لا يرى إلا من خلال وجه فلسطين وأحوالها لدرجة أنه يمكن للمرء بسهولة أن يتخيل أنه كان لا يمانع الاختفاء إذا أحسّ أن حضوره يمكن أن يحجب عن المتلقي رؤية ملامح المعشوق.
وقد راكمت حفلاته الكثيره تراثا بصريا ودلاليا محفوظا في ذاكرة كل من شاهده في مرحلة كانت سطوة الصورة قد بدأت تنشر نفوذها وقدرتها على حمل العناصر الأخرى وتوسيع مداها وتثبيت مراميها.
لقاء عاصي وفيروز
تحوّل حسين منذر، بصورته ومشهدية العاشق التي مثّلها، إلى معنى دائم الحضور والتكرار يحال الى الثورة الفلسطينية من خلاله، وكأنه صار نوعا من المعبر الإلزامي الذي لا يمكن تخيل أي حضور لها في المجال العام الا من خلاله.
الكثير من الأصوات الغنائية قاربت قصائد الشعراء الفلسطينيين المعروفين مثل محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وأحمد دحبور، لكنها لم تكن تقدّم منتجا فلسطينا صافيا إلا حين يقدّمها منذر بصوته عبر فرقته، بينما قد تكون بأصوات أخرى تعاطفا أو تأييدا أو تعبيرا عن موقف ما ولكنها بقيت، وبغض النظر عن التفاوت الفني واختلاف المستويات بين من قاربوا الشعر الفلسطيني غنائيا، مقيمة على ضفاف التعبير الملتصق بالقضية الفلسطينية كما رواها صوت حسين منذر وكما تلقاها الناس.
وقد يكون ذلك الانتماء الكلّي إلى مشروع الفرقة عنوانا لهوية وشكلا للوجود وليس مجرد مشروع فني، فالمنذر كما روى في أحد لقاءاته الصحافية كان قد رفض عرضا ثمينا من عاصي الرحباني لمشاركة فيروز في الغناء بعد أن سمعه يغني في إحدى حفلات معرض دمشق الدولي.
يروي منذر القصة قائلا: "خلال أحدى بروفات الفرقة في معرض دمشق الدولي كنت أغني وصادف وجود الفنان عاصي الرحباني والسيدة فيروز، فجذب صوتي اهتمام عاصي الذي تحدّث إليّ بعد انتهاء البروفة وأبدى إعجابه بصوتي الجبلي وقوته، وعرض عليّ العمل مع السيدة فيروز، وهي فرصة يحلم بها أي فنان بالعمل مع هؤلاء العمالقة، لكنني اعتذرت منه ومن السيدة فيروز لأن 'العاشقين' تجسّد كياني ولن أتركها ما دام الدم يجري في عروقي".
تاريخ وذاكرة
التزم أعضاء الفرقة عموما ارتداء الزيّ العسكري الفلسطيني في جل حفلاتهم، وكانت الصبايا المشاركات فيها يرتدين الأزياء الفلسطينية التقليدية، ونادرا ما خرجت الفرقة عن هذا التقليد وكان حسين منذر يطلّ على الناس بهذا الزي ليؤكد أن الخطاب الذي يدافع عنه متصل مباشرة بالنضال الفلسطيني.
جذب صوتي اهتمام عاصي الذي تحدّث إليّ بعد انتهاء البروفة وأبدى إعجابه بصوتي الجبلي وقوته، وعرض عليّ العمل مع السيدة فيروز، لكنني اعتذرت منه ومن السيدة فيروز
حسين منذر
ذلك الزي المرفق بالكوفية ليس مجرد خيار شكلي يتماهى مع الطابع العام الذي طغى على الغناء الملتزم بل كان يتجه إلى ما هو أبعد من ذلك، فالنضال الفلسطيني في ثمانينات القرن الماضي لم يكن فعلا عسكريا بحتا يلغي ما سواه ويوظفه لخدمته.ولعلّ خصوصية التجربة الفلسطينية في هذا الصدد أنها لم تكن مجرد خطاب عسكرة أعمى بل أبدت اهتماما ملحوظا بالشأن الثقافي والفني إنتاجا وانتشارا، فكان ذلك الإطار الشكلي الذي تظهر فيه الفرقة، والذي غلب على ما بقي في الذهن من صورة حسين منذر.
انتماء جلّ النتاج الغنائي للفرقة إلى الموسيقيّ الفلسطيني حسين نازك وسطوة قصائد أحمد دحبور على أغاني الفرقة، حدّدا طريق المشروع منذ البداية. قدم نازك للفرقة عموما ولصوت منذر خصوصا، مجموعة من الألحان المغرقة في تراثيتها الموسيقية الشرقية والتي تستعير ثيمات تراثية فلسطينية عميقة وتعيد تظهيرها وتوليفها.
كتب أحمد دحبور عددا كبيرا من أغنيات الفرقة، والتي كان من المفارقات البارزة طغيان العامية عليها، على الرغم من أنه نشر عدة دواوين بالفصحى، ولكن النزوع العام للتأريخ والحرص على الحفظ والحماية من التبدّد والنسيان، جعلا العامية الخيار المناسب لتوثيق اللحظة والتقاط نبضها بروح شعبية كما كان الحال في الأغنية الأكثر شهرة "اشهد يا عالم" التي تروي سيرة الوجود الفلسطيني في بيروت، وترصد محطاته النضالية المختلفة وصولا إلى مرحلة الاجتياح الإسرائيلي والخروج من لبنان عام 1982.
قبل ذلك كان منذر قد قدّم في مسلسل عز الدين القسام الذي عرض للمرّة الأولى عام 1981 أغنية "من سجن عكا طلعت جنازة" التي تروي قصة إعدام سلطات الانتداب البريطاني لأبطال "ثورة البراق" محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي عام 1930، وقد أفاد الملحن نازك في هذه الأغنية من ثيمة فلكلورية قديمة وأعاد توليفها لأغراض الانسجام مع المزاج السمعي المعاصر ورفع قابليتها للحفظ والانتشار.
ويسود خلاف حول الكاتب ففي حين ينتشر اعتقاد عام أن كلماتها للشاعر الشهيد نوح إبراهيم، إلا أن الدكتورة وداد البرغوثي تؤكّد أن الكلمات تعود لشاعر كفيف يدعى عبد الرحمن محمد حمدان البرغوثي.
اختراق السياسة
لاحقت أغاني الفرقة مراحل النضال الفلسطيني ورافقتها، لكنها وعلى الرغم من ارتباطها المباشر، لناحية الانتماء النشأة والتمويل، بمنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أنها نجت من أن تكون مجرد بنية دعائية فارغة، فقد نجحت في خلق خطاب فني عريض يلاحق تطورات القضية الفلسطينية كما تراه المنظمة، ولكنه يتجاوز حدوده الضيقة والمباشرة لينطق باسم الهمّ والحدث الفلسطينيين عموما.
لم يكن تأريخ الأحداث وحفظ الذاكرة ممكنين بالإحالة إلى السياسي فحسب، لذا جرى العمل على توسيع المشهدية بحيث تكون السياسة حاضرة في خلفية الخطاب من دون أن تسيطر عليه بالكامل وتأخذه إلى ما لا يستطيع احتماله.
اختار منذر الصمت بعد الخلافات التي عصفت بمنظمة التحرير في أواخر الثمانينات وتفككت الفرقة ونشأت بعدها فرق موازية، ودار الصراع نفسه الذي اخترق الساحة الفلسطينية عموما حول الأصلي والشرعي
يمكن القول إن اتساع مجال الحدث الفلسطيني تجاوز السياسي إلى التأريخ بالفن لما لا يحتمل وما لا يمكن تصوّره وإدراكه مثل مجزرة صبرا وشاتيلا، وغيرها من محطات الفاجعة الفلسطينية المتراكمة، وشكل محاولة لالتقاط الذهول والصدمة، والبحث عن تماسك الذاكرة والحرص على توثيق الحدث بكل ما فيه من زخم ومشاعر.
اختار حسين منذر الصمت بعد الخلافات التي عصفت بمنظمة التحرير في أواخر الثمانينات وتفككت الفرقة ونشأت بعدها فرق موازية، ودار الصراع نفسه الذي اخترق الساحة الفلسطينية عموما حول الأصلي والشرعي، إلا أن منذر بقي خارج هذا كله على الدوام على الرغم من أنه نذر نفسه للفرقة ومشروعها، ولكن هذا الرهن كان مقرونا بشرط واحد هو النطق باسم الروح الفلسطينية العامة. وقد يكون ذلك ما دفعه إلى العودة إلى الغناء قبل أشهر مطلقا أغنية "رصاص العز" إهداء إلى "عرين الأسود" و"كتيبة جنين".