أثار "بيان" لمثقفين فلسطينيين، صدر خلال الأسبوع الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري، نقاشا مهما حول قضايا كبرى تواجه الشعب الفلسطيني وتتطلب منه موقفا ونقاشا أوسع، بحيث إن ما بدا للوهلة الأولى "بيانا آخر" ضد تصريحات عادية لرئيس السلطة الفلسطينية، تحول إلى ساحة مهمة لاشتباك فكري وسياسي فلسطيني داخلي، وبدا من المهم القيام به للتوصل إلى استنتاجات لا بد منها تتعلق بمواقف أخلاقية وسياسية مبدئية، كما في الخيارات التي تمكن شعبنا من مواصلة طريقه بشكل سليم، في سعيه إلى التحرر وإنهاء الأبرتهايد الإسرائيلي وحالة الاستعمار الكولونيالي المدعومة من الغرب، والمتمددة يوميا؛ من النهر إلى البحر، بعد تجربة متعثرة، رغم أن الأمر يتعلق بتجربة وطنية ثرية عمرها ستة عقود تقريبا.
والبيان الذي تم إصداره وتوقيعه بهدف شجب أقوال رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بشأن "دوافع الهولوكوست"، وهي تصريحات أقحم بها عباس نفسه في خطاب ألقاه في اجتماع للمجلس الثوري لحركة "فتح"، بادعائه أن قتل اليهود والعداء لهم، من قبل النازية، كان بسبب "دورهم الاجتماعي"، سرعان ما تحول إلى نافذة جدية يجب استغلالها فكريا وسياسيا لأجل الاستمرار في نقض طريق طويل ومركب للحركة الوطنية الفلسطينية، أوصلها إلى حالة من التيه وعدم القدرة على التقدم باتجاه واضح، قد ينتشلها من أزمتها، ويؤهلها للعودة إلى أسس الصراع في مواجهة المشروع الصهيوني على أسس سليمة.
جاء البيان الذي وقعه عشرات من المثقفين والمثقفات والنشيطات والنشطاء والفنانين والفنانات الفلسطينيين مقتضبا ومباشرا وواضحا بشكل قلما نجده في بيانات مشابهة؛ فقد طرح نص البيان، في فقرتين فقط، القضايا الكبرى والأساسية التي تمس قضية الفلسطينيين وكفاحهم العادل، وأولها ضرورة الموقف الواضح من العنصرية واللاسامية وشكلها الأبرز الذي تجلى في النازية وجرائمها، وعلى رأسها الهولوكوست، التي نفذت ضد يهود ألمانيا وجوارها، والتي أسهمت في تعزيز الصهيونية، ومحاولة حل المسألة اليهودية في أوروبا على حساب شعبنا، وهو ما تجلى في النكبة وإقامة إسرائيل (1948).
وثانيها، الانحياز إلى حقوق الشعوب بالحياة الكريمة في مجتمعات تعددية، ورفض أي محاولة جذرية لارتكاب مجازر ضد المجموعات المستضعفة والأقليات، بأية حجة كانت.
وثالثها، الموقف من الأبرتهايد والاستعمار الكولونيالي، والتنكيل بالفلسطينيين والدعوة إلى إسقاط نظام التفوق العرقي الاستعماري قي فلسطين التاريخية.
ورابعا، الموقف الواضح من نهج السلطة الفلسطينية، القائم على علاقات التسلط، والفساد، وإضعاف المجتمع المدني، ومصادرة حقوق المواطنين، علما أنها سلطة تحت الاحتلال، وتقوم بالتنسيق معه، ضد النضال الوطني، ولأجل الحفاظ على امتيازات الطبقة السياسية المسيطرة، وذلك عل الضد من قرارات المجلس الوطني والمجالس المركزية بوقف التنسيق الأمني.
بالخط العريض، ومع إمكانية لإضافة هنا أو هناك، أو اعتراض بسيط هنا أو هناك، استطاع من صاغ البيان أن يضع نصا، أدى إلى جملة كبيرة من البيانات والمقالات المضادة، أو تلك التي تحاول تفكيك وفهم البيان وردود الفعل تجاه مضمونه، وحتى تلك التي تضمنت أفكارا لإدارة حالة "الصراع" مع السلطة وتابعيها، ومن يرأسها، محمود عباس.
طبعا كل نقد شرعي، ويجب أن يكون حالة مستمرة وضرورية لتقويم الفعل الشعبي وخصوصا في قضايا وطنية جادة كالتي تطرق إليها البيان، وشعبنا بحاجة للنقد والتفتيش دائما عن الأفضل، والذي يتم بهمة مثقفين نقديين، منهم من وقع على البيان ومنهم من انتقده بحرفية واحترام، ولم يوقع، وكلهم حريصون على المصلحة الوطنية وتقويم الطريق.
وقد يطال النقد مجرد فكرة توسل البيانات الموقعة كأداة للتعبير وللتغيير في قضايا وطنية، وطبعا مضمون البيان أو تعاطيه مع الموضوع المطروح، أو نقد من وقع أو اختار أن لا يوقع، وغير ذلك، فهذه كلها قضايا متاحة ولا يمكن حجبها، خصوصا في عصر الانفتاح الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا ينطبق على الكثيرين ممن نقدوا المقال ولم يستسيغوا موضوعاته، أو شكل طرحها، أو كل أو بعض من وقعه، وجلهم قام بذلك بشكل يدعو إلى احترام رأيهم، والتفكير في جملة دوافعهم وأفكارهم التي نشرت على منصات مختلفة. لكن هنالك بعض الجوانب التي وردت هنا وهناك وفي بيانات أو مقالات تستوجب الإشارة أو التفكير، وخصوصا أن سياقها له أهمية كبيرة وتأثير متدحرج على الوضع الوطني الفلسطيني وإمكانيات التقدم للأمام.