هناك نقطة تصل فيها أي إمبراطورية إلى نهايتها، في أي شكل تبدّت وأي لباس تجلّت. وعادة ما تكون هذه العملية طويلة الأمد وتتميز بتطورات مختلفة، يكون بعضها واضحا للعيان بينما يكون البعض الآخر أكثر مداورة ومراوغة. ومع ذلك، فإن لحظة الاعتراف الأخيرة بزوال الإمبراطورية، التي لا يمكن إنكارها، غالبا ما ترتبط بحدث محدد. ولعل المثال الأبرز لإمبراطورية تقليدية في العالم الحديث، هي الإمبراطورية البريطانية، التي كانت اللحظة المحورية لنهايتها هي أزمة السويس عام 1956.
صحيح أن بريطانيا كانت تتخلى تدريجيا عن وضعها الإمبراطوري منذ أوائل القرن العشرين، ولكن أزمة السويس عززت هبوطها إلى درجة أقل أهمية، مقارنة بالقوتين العظميين الناشئتين، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وما عتم بعدها أن تداعى الكثير من المستعمرات البريطانية في أفريقيا، التي ارتفعت فيها النزعة القومية إلى الاستقلال في غضون خمس سنوات. ولم يتبق من الإمبراطورية البريطانية سوى عدد قليل من مناطق الخليج التي ستحصل هي أيضا على استقلالها في غضون عقد من الزمن.
أما الإمبراطورية الحديثة الثانية الأكثر نفوذا، فرنسا، فكانت نهايتها أقل وضوحا، إذ لم يكن ثمة حدث بعينه أشار إلى نهاية الإمبراطورية الفرنسية، ومع ذلك فثمة إجماع على أن بداية تراجعها يعود إلى معركة ديان بيان فو في فيتنام عام 1954، والتي كانت بمثابة نهاية الإمبراطورية الفرنسية في الهند الصينية. وأدت أزمة السويس- حيث كانت فرنسا واحدة من الدول الثلاث المشاركة في غزو مصر- إلى تسريع انهيار الهيمنة الاستعمارية الفرنسية في أفريقيا، وانتهت بشكل أساسي في عام 1962 مع استقلال الجزائر الذي نالته بشق الأنفس. وحذت حذوها جيبوتي وجزر القمر في السبعينات. ولم يتبق لفرنسا سوى 13 مستعمرة في بولينيزيا ومنطقة البحر الكاريبي، والتي صنفتها على أنها "France d'outre-mer" (أقاليم ما وراء البحار الفرنسية) بموجب ترتيبات مختلفة داخل الدولة الفرنسية.
ثمة فرق بين طريقتي حكم بريطانيا وفرنسا لمستعمراتهما، ففي حين كانت السياسة الاستعمارية البريطانية تعتمد الحكم غير المباشر وتمنح الدول الأفريقية درجة أكبر من الاستقلال الذاتي في تشكيل مصائرها، كانت طريقة فرنسا في التعامل مع مستعمراتها السابقة تتخذ مسارا مختلفا. وتمكنت باريس من تحويل "مهمتها الحضارية" الاستعمارية (تمدين الشعوب الأصلية) من خلال شبكة معقدة من الآليات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية إلى ترتيبات مبتكرة سمحت لها بالحفاظ على موقع مهيمن على أفريقيا الناطقة بالفرنسية لعقود عديدة. بلغت هذه الترتيبات ذروتها عام 1973 مع مبادرة "فرانسأفريك" (Françafrique)، وهي مبادرة سياسية شارك في تشكيلها رئيس ساحل العاج، فيليكس هوفويت بوانيي. ومن الناحية العملية، كان هذا يعني أن فرنسا كانت تعطي الأولوية لمصالحها الاقتصادية قبل كل شيء، ولم تكن تتردد في دعم أي نظام يحمي هذه المصالح.