"أربعينية الحسين": التوظيف السياسي بديلا للحزن الانساني

"أربعينية الحسين": التوظيف السياسي بديلا للحزن الانساني

ما يجري في العراق، في "أربعينية الحسين"، لا يمكن وصفه إلا بالكارثة الاجتماعية والثقافية والدينية، التي حلت على هذا البلد المنكوب، بحكامه وجيرانه وثرواته وتاريخه؛ فقد وصلت المبالغات في إحياء الذكرى، هذا العام، إلى حدها الأقصى، وظهرت روايات وشعائر وسلوكيات، عجيبة غريبة، خرجت عن حدود العقل والاتزان وقاربت التطرف.

إن البقعة الجغرافية، التي تشكل مسرح الذكرى وحاضنتها، والتي تمتد من بغداد والبصرة والنجف ومدن أخرى، وصولا إلى كربلاء، شهدت تصعيدا طقوسيا مقلقا، انتقص من رمزية الذكرى، وكاد أن يُخرجها من ظرفها الثوري، وحتى من حزنها، وأضفى عليها بعدا ثأريا، وصل إلى حد الإعلان عن تقديم دعوى قضائية، ضد يزيد بن معاوية، بتهمة قتل الحسين. هذا عدا دخول أساليب جديدة لأذية النفس وإذلالها (نموذج أم مظفر) وظهور المزيد من التحريفات، التي استهدفت جوهر الواقعة التاريخية ومظهرها، من أجل إعادة صياغتها كما يناسب الطامحين إلى تسيد الطائفة.

فيما مضى، كان العراقيون يأتون إلى كربلاء، يوم الأربعين، في مواكب راجلة، يُطلق عليها اسم "المشاية"، وعلى طول الطرق المؤدية إلى ضريح الحسين، كانت تنتشر مضايف العشائر، التي تقدم الماء والطعام والخدمات الطبية، وكان ذلك يجري في جو من الألفة والعواطف الدينية والوطنية، التي تتأثر بها كل المكونات العراقية.

إبان الحرب العراقية– الإيرانية، منع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، إحياء الذكرى، وقطع الطريق على "المشاية"، ثم جاء الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، فعاد الشيعة العراقيون إلى سابق عهدهم، ومع انسحاب الأميركيين وتسليم العراق للجيوش الإيرانية، بدأ هذا الطقس الديني العاطفي، ينكفئ إلى داخل الحدود الطائفية الضيقة.

فبدل المشي، صار هناك مَن يأتي إلى الضريح، زاحفا على بطنه، ويمسح بلاطات المقام بلسانه، وهناك مجموعات تأتي حبوا على أربع، تُطلق على نفسها اسم كلاب الزهراء أو الحسين أو العباس، وهناك مَن يمشي حافيا على الجمر أو الزجاج، وهناك مجموعات تغطس في برك من الطين، معدة سلفا لهذا الغرض، وهناك مَن يهيل على نفسه التراب طوال الطريق، وهناك مَن يقبل أقدام الزوار، وهناك مَن يغسلها، وهناك مَن يدلكها بالمراهم والعطور المباركة.

تخترق مشهد الشارع، الخرافات والبدع والأضاليل، التي يجود بها خطباء المنبر الحسيني والرواديد، في المجالس والحسينيات

كما انتشرت عادة تسيير المواكب، التي تجسد شخصيات دينية أو تاريخية، فصار يحضر الأنبياء على صهوات خيولهم، لإلقاء السلام على الحسين، والملائكة للصلاة عليه، ويظهر موكب يضم نساء نادبات، يتجللن بالسواد، ترمز إحداهن إلى السيدة فاطمة الزهراء.

أما الظاهرة الأكثر عنفا وقِدما، التي يتمسك بها العراقيون، على مستوى المؤسسة الدينية والمؤمنين، ويأتي الشيعة من كل بقاع العالم، لكي يشاركوها معهم، فهي "التطبير"، أي شج الرؤوس بآلة حادة، حتى تخرج الدماء، وقد انضم إليها الأطفال وحتى الرضع حديثا، إضافة إلى ضرب الأكتاف والظهور بالزنجيل (حزمة من السلاسل الحديدية) حتى تفسخ الجلد وإسالة الدماء. 

وتخترق مشهد الشارع، الخرافات والبدع والأضاليل، التي يجود بها خطباء المنبر الحسيني والرواديد، في المجالس والحسينيات، فهذا الشيخ يقسم أن الله خلق الأكوان كلها، من أجل الحسن والحسين، وذاك يقول إن الإمام علي كان يتحدث مع الأرض، فإذا هزت يأمرها بأن تكف، وغيره يروي أن أسدا جائعا، خشع أمام السيدة زينب، عندما عرف بمقتل الحسين، وصار يبكي معها، وهناك شيخ يتزاحم مريدوه، على الفوز بمنديل مسح به عرقه، أثناء قراءة العزاء.

أما الرواديد، فهم على كثرتهم، يمكن اختصارهم في الملا باسم الكربلائي، الشهير بتاجه الذهبي وصولجانه وعباءته، التي تشبه عباءات السلاطين، والملقب بسلطان المنبر الحسيني، المتعطر بعطر يحمل أول حرفين من اسمه، وهو مُطلق أفلام الأنيميشن التي تروي سيرة الحسين للأطفال، والألحان والموسيقى، التي ترافق اللطميات.

وأربعينية الحسين، للتذكير، هي مناسبة مختلف عليها تاريخيا، عند الشيعة، هناك حديث للمرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله ينفي فيه وجود "الأربعين" في التشريع الإسلامي، ويقول إن المقصود بالحديث، الذي وردت فيها "زيارة الأربعين"، هو زيارة أربعين مؤمنا. السيد كمال الحيدري أيضا يؤكد أن زيارة الأربعين، لا أصل لها في تاريخ الشيعة، وليس لروايتها مستمسك قوي. وبرغم هذا صارت شعيرة أساسية، من شعائر عاشوراء، يجدد فيها الشيعة، حزنهم على مصاب الحسين وأهل بيته.

وللذكرى عامة، في العراق، خصوصية مختلفة قليلا، فالوجدان العراقي مسكون بندم عاطفي، كون أهل الكوفة نكثوا عهدهم مع الحسين، ولم ينصروه كما وعدوه، لذلك نرى العراقي يبالغ في ممارسة أفعال التوبة، من بكاء وتفجع ولطم وتعذيب جسدي، عله يمحو آثار هذه الخطيئة التاريخية، ولهذا السبب، ربما، صار الحزن سمة أصيلة في الشخصية العراقية، وشاع في الشعر والأدب والموسيقى والغناء والمواويل الشعبية. لكن، لأغراض سياسية.

حولت الأحزاب الشيعية الحاكمة، السيرة الحسينية إلى دروس في الآيديولوجيا الدينية، التي تمليها على أتباعها، لشحنهم وتغذية عصبهم الطائفي، فيتمسكون بها، ويغضون الطرف عن فسادها

 اختفى هذا الحزن الإنساني من السيرة الحسينية، برغم أنه لم يختفِ من الوجدان العراقي، وحل محله شعار "يا لثارات الحسين" الانتقامي، ذلك أن الحسين المطلوب حاليا، هو طالب الثأر، والساعي إلى السلطة، وليس الذي خرج لمحاربة الفساد.
فقد حولت الأحزاب الشيعية الحاكمة، السيرة الحسينية إلى دروس في الآيديولوجيا الدينية، التي تمليها على أتباعها، لشحنهم وتغذية عصبهم الطائفي، فيتمسكون بها، ويغضون الطرف عن فسادها. 

كما نجحت في استغلالها، وتحويلها إلى محطة سنوية، للتشديد على الهوية المذهبية وإبرازها، لذلك نرى هذا الحرص على تزخيم المناسبة، عاما بعد عام، وشحنها ببدع وخرافات جديدة، وإبعادها عن العقل والمنطق، وعن صدقيتها التاريخية، ونرى كيف يتم تسخير الثورة الأكثر جدلا في التاريخ الإسلامي، التي انطلقت بهدف الإصلاح، بجعلها منبرا لتكريس واقع سياسي فاسد، يحتاج إلى ثورة إصلاحية.

font change