كيف نتذكّر ميخائيل نعيمة في ذكرى رحيله الخامسة والثلاثين (1889 - 1988)؟
لا أنسى تلك اللحظة التي شاهدت فيها ميخائيل نعيمة على الشاشة التلفزيونيّة قبل رحيله بسنة أو بسنتَين. كان قد تجاوز التسعين. سئل في تلك المقابلة: ما الذي تأسف له وأنت في هذه السنّ؟ أجاب رافعا يده اليمنى، وهي ترتجف، "آسف لأنني ما عدت أستطيع أن أكتب بسبب ارتجاف يدي اليمنى". أف! أكثر من 90 عاما، وما زال يصرّ أن يكتب. أيّ وفاء للكتابة؟ أيّ شغف بها؟ لم يقل مثلا "إنني شِخْت، ولا أخاف الموت". أو "شِخْت وأخاف الموت"، أو "الموت كذا وكذا". أسف على يده لأنّه بات عاجزا عن حمل القلم ليخطّ ما يريد خطّه على الورقة.
لا أنسى هذه اللحظة الدراميّة، ليس لأنه تقدّم في العمر، بل لأن أعظم شيء قد سُحب منه: الكتابة! رحت أتساءل: ماذا يا ترى تبقّى عنده ليكتبه بعد تسعة عقود من الإبداع المتنوّع، وبِلُغات عدّة: الإنكليزيّة، الروسيّة، العربيّة؛ في الرواية، أو القصّة القصيرة، أو النقد، أو... قصيدته الرائعة "مرداد". أو في الفلسفة والتأمّل.
فهو صاحب معماريّة أدبيّة عالية ومفتوحة. بمعنى آخر، ليس نعيمة صاحب الكتاب الواحد، وحوله كتب أخرى، كجبران خليل جبران في "النبي". فكتابه التحفة "مرداد"، كأنّه تردّد عميق لرائعة جبران "النبي". وإذا كان جبران قد تعدّد في كتاباته، من الرواية والقصّة، والشعر، والتأمّل، والفكر، فإنّ نعيمه تتساوى عنده – قيمة أشكال أخرى (غير مرداد)، ذات أهميّة وريادة. وإذا كان يرى بعضهم أنّ جبران في "نبيّه" (وهذا قابل للنقد)، فإنّ نعيمة كان رائدا في افتتاح مفهوم جديد في النقد العربي، مفهوم جدّي اصطلاحي تحليلي، لم يكن سائدا في عالم النقد، وكتب سيرتَين: سيرته "سبعون"، وسيرة جبران خليل جبران. وألّف مسرحيات عدة، ويتميز أنّه كتب بلغات ثلاث: الروسيّة، الإنكليزيّة، والعربيّة. من هنا ينشأ الاختلاف بين تكوين الرجُلين: فقد عاش نعيمة في روسيا، وفي الولايات المتحدة، ولبنان... ومن خلال المثاقفة، كوّن أسلوبا مختلفا، ربّما أكثر تنوّعا، وخصوصا في التعبير. فجبران شاعر رومنطيقي، يُعتبر من كبار شعراء هذا النوع، في بلاد الإنكليز والولايات المتحدة والعرب. وقد طغت شعريّته على طريقة تعبيره: فـالنبي قصيدة طويلة، وروايته "الأجنحة المتكسرة" (شعريّة بأسلوبها)، وكذلك "رمل وزبد".
إذا كان جبران اقتبس "خطبة الجبل" من المسيح لتكون منطلقا لكتابته في "النبي"، فإنّ نعيمة اختار "نوحا"، عاملا من عوامل "ملحمته المرداديّة". من هنا، نرى أن نعيمة يستغل في "مرداد" حسّه السردي والتحليلي، وكيميائيّة شعرية من حكم أو تصوّر أو تخيّل
أمّا نعيمة، وعلى الرغم من إصداره ديوانا شعريّا "همس الجفون"، فهو اتخذ منحى نقديّا في كتاباته، في أسلوب متقشف، وواقعي، ونثري متنوّع، سواء في الرواية أو القصّة أو النقد أو السيرة. ذلك لأن نعيمة لم ينخرط في الرومنطيقية الغربية التي كانت سائدة في تلك المرحلة (حتى شعره، فمحدودة تجربته فيه)، ويجب أن ننتظر "مرداد"، لكي يبني فيه عمارة تجمع بين التأمّل والفلسفة والأسطورة والحكمة، وحتى الشعر، الذي يلمع بين سطورها، مرتبط ارتباطا عضويا، بمخيّلة الكاتب. فالشعر ليس العامل الوحيد في "مرداد"، (الذي ترجم إلى ثلاثين لغة)، بل عنصر من العناصر، لأنّ أسلوب نعيمة ينضح الشعر منه، من خلال امتزاج مكوّنات قصصيّة عدة، وتعدّد في الرؤى يصهرها شعرا من المواقف والتصوّرات والأساطير، والأديان.
وإذا كان جبران اقتبس "خطبة الجبل" من المسيح لتكون منطلقا لكتابته في "النبي"، فإنّ نعيمة اختار "نوحا"، عاملا من عوامل "ملحمته المرداديّة". من هنا، نرى أن نعيمة يستغل في "مرداد" حسّه السردي والتحليلي، وكيميائيّة شعرية من حكم أو تصوّر أو تخيّل... ليست فاقعة، بل يمكن استنزافها من طرق تقديم الصوت "الأسطوري".
ونظنّ أن ميخائيل نعيمة، أبرز في كتاباته المتنوّعة، وأساليبه المتوالدة، مدى تأثّره العميق بالثقافات المتعددة التي احتك بها. ففي تلك المرحلة كان نجوم الأدب الروسي من الروائيين (تولستوي، ودوستويفسكي، وغوغول، وتشيخوف (الأكبر في كتابة القصّة) ولا نعرف حقّا، إذا كان نعيمة تأثّر بالشعراء الروس في تلك المرحلة، أو بالشعراء الإنكليز (الولايات المتحدة)، أو حتى بالرومنطيقيّة. من هنا نقول إن التثليث اللغوي عنده، ساعده على تخصيب مواضيعه الروائيّة، والأسطوريّة أو حتى الحكائيّة. فأسلوب "الحكاية" طاغٍ، يتزاوج مع الأسلوب الروائي، أي عند ميخائيل سرديّتان متكافئتان تتمازجان أو تنصهران في ضربات شعريّة دفينة، أو سافرة، أو صامتة أو ضاجّة، لكنّها غير منفصلة عن مكوّنها الأوّل.
هذا تحديدا، ومن خلال هذه "الاستعارات"، والمتحوّلات في الأداء المتخيّل تنكشف هنا وهناك شعريّة غامضة عنده، ملتبسة تحرّكها أحيانا مسارات "الأسطورة" المتخيّلة أو المتفكّرة، لكنها في المحصلة الأخيرة تملأ حواسك وعقلك ووعيك، بإيقاعات تتناغم هنا وتتآلف هناك، بصوفيّة تعبيريّة داخليّة تذيب كل العناصر في بوتقة موحية بعوالم شعريّة أو غير شعريّة أو بأحاسيس "جديدة" غير مألوفة. ولهذا، فإن نعيمة (عكس جبران) لم يتوجّه إلى جمهور ما، بل إلى كائنات عديدة، مجهولة المصدر أو الثقافة أو الجنس أو الطبائع. جبران معروف الوجهة والزمن والأمكنة، بينما نعيمة لا هوية لكتابته في "مرداد"؛ سواء دينيّة محدّدة، أو فلسفية مقرّرة، أو شعريّة بلاغيّة، أو رومنسيّة محاصرة.
يعتبر نعيمة مجدّدا في طريقه كتابته مجافيا التعقيد، والافتعال في اللغة، أقرب إلى تجسيد المعنى بأسلوب قريب، سهل التركيب (السهل الممتنع) وذلك خصوصا في قصصه
"مرداد" هو النص المفتوح، ولهذا يلتقي بعض الإنجازات الحديثة في مفهوم هذا النص (الخليط بين السرد والإبلاغ وما هو غير محتمل). لكن إذا كان "نبي" جبران حجب إلى حدٍّ ما معظم كتاباته، لاتّساع انتشاره وسهوله قراءته (هو كتاب شعبي أوّلا وأخيرا)، فإن "مرداد" نعيمة (مع أنّه تُرجم إلى 30 لغة)، لم يخفِ كثيرا ريادة صاحبه، في مجالات شتى:
1 - نشر مجموعات قصصية رائدة في هذا النوع، بأسلوبها وجدّيتها وبُعدها عن التزويق، والبلاغة. ونشر أولاها بعنوان "سنتها الجميلة" التي نشرت في كتابه "كان ما كان" وكتب رواية وحيدة تخضع للشروط الحديثة بعنوان "مذكرات الأرقش".
2 - كتب مسرحيات أقرب إلى الحوارية منها إلى العمل الدرامي بعنوان "الآباء والبنون".
3 - يعتبر رائد النقد الحديث، الدقيق، بلغه تحليليّة، رصينة ونشرها في كتابيه "الغربال" و"الغربال الجديد".
4 - رائد كتاب السيرة من خلال اثنتين "جبران خليل جبران"، وسيرته بعنوان "سبعون"، وذلك باللغتين العربيّة والإنكليزيّة.
إنّ نعيمة يلتقي جبران وبعض كتاب "الرابطة القلميّة" لمعالجة القضايا الميتافيزيقيّة والروحانيّة، بعيدا من التعصّب المذهبي والديني، وقد استفاد من المجازر التي وقعت في وطنه لبنان؛ وهو، كذلك ميّال إلى النزعة الصوفيّة داعيا في أفكاره إلى نقاء النفس متأثرا بثقافته المسيحيّة والإسلاميّة.
5 - يرى أن يكون الأدب مساويا الحياة نابعا منها، لنلمس في كتاباته انكبابه على معاناة الطبقات الكادحة والمهمّشة (كتب قصصا عدة في هذا الاتجاه)؛ وفي رأيه أن الأديب هو صوت الأمة يتبنّى همومها ويواجه من أجل تحقيقها.
6 - يعتبر مجدّدا في طريقه كتابته مجافيا التعقيد، والافتعال في اللغة، أقرب إلى تجسيد المعنى بأسلوب قريب، سهل التركيب (السهل الممتنع) وذلك خصوصا في قصصه ولا سيّما في "سعادة البيك". وهي تختلف عن لغة جبران الشعريّة المكتنزة بالصور، والاستعمالات والرموز والإحالات.
وُلد نعيمة في بلده بسكنتا (المتن الشمالي)، في جبل صنّين الذي يرتفع نحو 2500 متر عن سطح البحر. درس في المدرسة اللاهوتية في بولتافا الروسيّة خمس سنوات، ثمّ رحل إلى الولايات المتحدة فحصل على الجنسيّة الأميركية ودرس الحقوق، وبعد تخرّجه انضمّ إلى "الرابطة القلميّة"، التي تأسّست على أيدي أدباء المهجر، وكان من ضمنها جبران خليل جبران وثمانية كتّاب. وقد عاش في أميركا نحو 21 عاما ثم عاد إلى بسكنتا بعد موت جبران، وبقِيَ فيها حتّى مماته.
السؤال الأخير: هل ضاهى نعيمة "نبي" جبران بكتابه الأهم "مرداد"؟ يقول بعضهم: لقد تفوّق به على رفيقه قيما روحية، وإبرازا لمشكلات الوجود الإنساني، وتدفّق أسلوبه وومضاته الروحيّة المدهشة، وتنوّعه في المواقف، وإيقاعات اللغة.
لكن، نرى أنّه لا يجوز المفاضلة بين "نبي" جبران و"مرداد" نعيمة، لأنهما يختلفان في المناخات والأهداف، وطبيعة اللغة: فكتاب "النبي" شعبي بامتياز ودليل ذلك أنّه باع عشرات الملايين من نسخه، بينما "مرداد" نعيمة بقي كتاب "النخبة" لأنّ صيغته مركّبة تجمع بين مستويات سرديّة، وأسطوريّة، ووعظيّة، وصوفيّة، ومفتوحة على الدلالات الغامضة في الوقائع والقصص والأساطير.
رحل نعيمة عام 1988 عن عُمر يناهز الثمانية والتسعين، في بلدته بسكنتا، ولُقِّب بـ"ناسك الشخروب"، ذلك الموقع العالي الذي عاش ومات فيه.