يعيش العالم حاليا في صلب الثورة الصناعية الرابعة، المختصرة بكلمتي "الذكاء الاصطناعي" ، ومن الواضح أن تأثيراتها الانسانية وأخطارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تتفوق على كل ما سبق أن شهدناه، فهي لا تقتصر على دولة أو على قطاع بذاته، بل تجتاح مختلف جوانب الحياة على سطح الكوكب، وتؤسس لتغيير جذري في طريقة عيش البشر وتعاملهم بعضهم مع بعض.
وهي إن بدأت من برمجيات وخوارزميات، تتكون وتتوالد في الحقيقة من صلب القرار السياسي وما تفرضه مصالح الدول أمنيا وعسكريا في الدرجة الأولى، ومن ثم اقتصاديا. التطور المتسارع لعناصرها في السنوات الأخيرة، الذي يفوق الخيال، سباق لا يعترف بضوابط ولا بحدود، واتخذ منذ نحو سنة منحى خطيرا لصراع شركات التكنولوجيا، وتاليا للنفوذ الذي تستغله كمؤسسات خاصة وكدول، كل بحسب موقعه وحجمه ومصالحه.
واذا كانت "الثورة الرقمية" قادتنا الى "حالة من الامتثالية والعبودية الإرادية، يتعرى فيها الفرد لصالح حفنة من الشركات المتعددة الجنسيات، وهي أميركية في معظمها”، كما يقول الكاتبان مارك دوغان وكريستوف لابي، في كتابهما "الإنسان العاري: الديكتاتورية الخفية للرقمية"، فما الذي يمكن تعريته أكثر في عصر الذكاء الاصطناعي؟ يتحسر المؤلفان على عالم جورج أورويل، الذي صاغه في روايته "1984"، فنموذج الهيمنة الديكتاتورية الذي وصفه أورويل تم تجاوزه على المستوى التكنولوجي، وها هو الذكاء الاصطناعي يبشرنا باختراقات للآلة كذاكرة جماعية للبشرية لا حدود لها.
في عصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي والطباعة الثلاثية الأبعاد وإنترنت الأشياء، نحن على مشارف تاريخ جديد سيغير وجه العالم إلى الأبد، حيث تنافس الآلات والخدمات الافتراضية دور البشر من حيث القدرات والمهارات والكفاءات، على الرغم من النمو الهائل للإنتاجية، لتتغير قواعد اللعبة، وتتعاظم المخاوف من فقدان السيطرة البشرية على التطور التقني الذاتي، الذي يُخشى أن يكون مدمرا.
هذا الواقع دفع دول العالم إلى السعي جديا لوضع الضوابط واللوائح التنظيمية في محاولة للإمساك بزمام الأمور، خصوصا أن هذه التكنولوجيا تخضع حاليا لأهواء الشركات الخاصة التي تتسابق في ما بينها لجني الأرباح، من دون اعتبار لمآلات ممارساتها وخططها ومنتجاتها التي تتخطى حدودها الاقتصادية البحتة، وتطرح إشكاليات أخلاقية وقانونية، أقلها اختراق خصوصية البيانات والتحيز والأخطار التي يمكن أن تنجم عن سوء الاستخدام.
اختراق الاقتصاد التقليدي
ليس هناك تصور نهائي بعد عن تأثير الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد العالمي، إلا أن الخلاصتين الأكيدتين هما أن الإنتاجية سترتفع، وأن تحولات عميقة في طريقها إلى اختراق المسارات الاقتصادية التقليدية. كذلك، سيشكل الذكاء الاصطناعي تحديا كبيرا لأنظمة الحوكمة وحقوق الملكية الفكرية والأدبية المحلية والدولية، نظرا إلى الانتشار الفائق السرعة للتطور الرقمي، مدعوما بأكبر شركات التكنولوجيا في العالم، والقطاع الخاص، حيث انتقل في العقد الماضي، من هامش اهتمام المراجع السياسية والعسكرية والاقتصادية، إلى مركز الاستثمار الأساسي ومحور التحول الاقتصادي.
فقد ارتفع الاستثمار العالمي في حقول الذكاء الاصطناعي منذ عام 2010 من نحو 800 مليون دولار إلى 78 مليار دولار في عام 2021، ويقدّر أن تساهم هذه التكنولوجيا بما يصل إلى 15,7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي في عام 2030، منها 6,6 تريليونات دولار قيمة إنتاجية مضافة. ويرجح أن تحصد منطقة الشرق الأوسط نحو 2 في المئة من الفوائد العالمية الإجمالية للذكاء الاصطناعي مع نهاية العقد الحالي، أي ما يوازي نحو 320 مليار دولار.
وفي تقديرات موازية، ترى دراسة لشركة "أكسنتشر" (Accenture) أن تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تعزز إنتاجية العمل بنسبة تصل إلى 40 في المئة في عام 2035، فيما يورد تقرير حديث صادر عن معهد "ماكينزي" العالمي أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحقق ناتجا اقتصاديا إضافيا بنحو 13 تريليون دولار في حلول عام 2030، معززا الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 1,2 في المئة سنويا.
إذا ما دلت هذه الأرقام على شيء، فهي تؤكد أنه على الرغم من تغلغل الذكاء الاصطناعي أكثر فأكثر في يومياتنا في مختلف جوانبها، لا تزال إمكاناته المكتشفة والمستخدمة في بداياتها، ولا نزال قاصرين عن استشراف المستقبل الفعلي لهذه التقنية، ويبقى التحدي الأكبر في العمل على تعميمها والسيطرة عليها، حيث أن تبنيها وتكاملها في الاقتصادات المتقدمة قد يعززان الفجوة الرقمية مع الاقتصادات النامية، ويؤججان الصراعات والحروب على أفضلية تطويرها والتفوق في استخدامها. فوفقا لـ"سي. بي. إنسايتس"، من بين 100 شركة عالمية واعدة في مجال الذكاء الاصطناعي، تستأثر الولايات المتحدة بـ 64 في المئة منها، وتليها المملكة المتحدة بـ 8 في المئة، والصين وإسرائيل بـ 6 في المئة، وكندا بـ 5 في المئة، في حين تغيب الشركات العربية عن المشهد حتى الآن.
البيانات كالغذاء بالنسبة إلى البشر
غزو الذكاء الاصطناعي ليس جديدا. فعلى الرغم من التقدم الكبير الذي شهده خلال العقد المنصرم تحديدا، إلا أن أسسه النظرية والتكنولوجية كانت في تطور مستمر على مدار السنوات السبعين المنصرمة بجهود علماء مثل آلان تورينج ومارفن مينسكي وجون مكارثي. وأبرز ما توصلت إليه النظريات، عدا انصهار الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات والقطاعات، اقتصادية وطبية وتعليمية وفنية وابداعية وسياسية وعسكرية وغيرها، فإن الجديد هو قدرة هذه التقنية على التعلم الذاتي من التجربة والتكيف بمرور الوقت، وهنا تكمن خطورتها. يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كوسيلة متطورة ومثلى لأتمتة المهمات والمساعدة على أدائها بشكل أسرع وأكثر فاعلية، وكذلك المساعدة على اتخاذ قرارات أفضل، أو حتى صنع القرار من دون تدخل بشري.
عدد براءات الاختراع المرتبطة بـ #الذكاء_الاصطناعي زاد بشكل ملحوظ طوال العقد الماضي حتى وصل إلى 37 ألف براءة اختراع في عام 2022#الشرق_تكنولوجيا#اقتصاد_الشرق pic.twitter.com/dzY5GJgcrt
— اقتصاد الشرق تكنولوجيا (@AsharqTech) July 31, 2023
يرتكز نمو الذكاء الاصطناعي بشكل رئيسي على البيانات، فهي كالغذاء بالنسبة الى البشر. ومع تعاظم إمكانات تخزين هذه البيانات وضخامة حجمها (Big Data) ونموها المضطرد الذي يقدر بأكثر من 50 في المئة سنويا منذ عام 2010، أصبح الابتكار أكثر وضوحا، بل ويولد سلسلة لا متناهية من الابتكارات، تجعل المنافسة العالمية على أشدها، في شتى الميادين، والسباق إلى إرساء هذه التقنية في أوجه، لا سيما انفتاح العديد من الدول العربية عليها، في مقدمها السعودية والإمارات، التي تجد في تبنيها الاستراتيجي حلولا لتنويع اقتصاداتها واستدامتها أو معالجة أزماتها على المدى الطويل، وتعزيز فرص التعليم والتدريب لتهيئة الأجيال القادمة للمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية، وكذلك تحديث أنظمة الحوكمة والشفافية التي تتيحها تقنية الذكاء الاصطناعي.