درنة... كيف ورد ذكرها في المصادر الجغرافية والتاريخية؟https://www.majalla.com/node/299986/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AF%D8%B1%D9%86%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D9%88%D8%B1%D8%AF-%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9%D8%9F
تحضر درنة الليبية هذه الأيام في وسائل الإعلام العالمية بوصفها مدينة منكوبة بكارثة فيضان هو الأعنف منذ عقود طويلة ليس في قارة إفريقيا وحسب، بل ربما في العالم أسره. لكن هذه المدينة التي تبدو مجهولة لدى السواد الأعظم من الجمهور، كانت ذات يوم مسرح صراع عسكري دولي، والمكان الأول الذي رفع فيه علم الولايات المتحدة الأميركية خارج العالم الجديد.
ظهر اسم درنة في كتاب "الجغرافيا" لبطليموس باسم "دارنيس" في القرن الثاني الميلادي. ولكن سرعان ما بدأ يتردّد بكثرة بعدما تحولت إلى عاصمة دينية لولاية ليبيا السفلى "مارمريكا"، إذ تحتفظ الوثائق الكنسية بأسماء أساقفة شاركوا في المجامع الكنسية في عصر الصراعات العقائدية.
ويرد ذكر درنة في "فتوح مصر والمغرب" لابن عبد الحكم (800- 871م)، إذ يقول إن زهير بن قيس "خرج حتى إذا كان بدرنة من طبرقة من أرض أنطابلس، لقي الروم في سبعين رجلا، فتوقف لتلحق به الناس، فقال له فتى شاب كان معه: جبنت يا زهير؟ فقال ما جبنت يا ابن أخي، ولكن قتلتني وقتلت نفسك، فلقيهم فاستشهد زهير وأصجابه جميعا، فقبورهم هناك معروفة إلى اليوم. وكان مقتل زهير سنة ست وسبعين للهجرة". ويتابع ابن عبد الحكم أن رجلا من مذحج يقال له عطية بن يربوع زحف إلى الروم في درنة وقاتلهم فهزمهم واعتصموا بسفنهم وهرب من بقي منهم.
ظهر اسم درنة في كتاب "الجغرافيا" لبطليموس باسم "دارنيس" في القرن الثاني الميلادي. ولكن سرعان ما بدأ يتردّد بكثرة بعدما تحولت إلى عاصمة دينية لولاية ليبيا السفلى "مارمريكا"
والغريب أن الجغرافي المسلم اليعقوبي (820- 900م) لم يذكرها في كتابه "البلدان" باسمها، إنما ذكرها كمنزل، أي محطة على طريق السفر، باسم "منزل وادي مخيل"، حيث يقول إنه "منزل كالمدينة، به المسجد الجامع، وبرك الماء، وأسواق قائمة، وحصن حصين، وفيه أخلاط من الناس". غير أن ياقوت الحموي (1178- 1229م) صاحب "معجم البلدان" يذكرها بالاسم، ولكنه يربطها فقط بقبر زهير بن قيس ورفاقه.
مأوى للأندلسيين
ويحيطنا الرحالة والفقيه المغربي عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي (1627 - 1679) في رحلته الشهيرة "ماء الموائد" علما بأن درنة ذات المرسى الكبير، كانت خالية من السكان حتى عمّرها الأندلسيون عام 1630، وهم الذين خرجوا من بلادهم بعد مرسوم الطرد الشهير للملك فيليب الثالث عام 1609. ويقول العياشي إن حربا نشبت بين الأندلسيين وبين أمير طرابلس، فارتكب فيهم مذبحة راح ضحيتها مئة من أشرافهم، وأخرجهم منها صاغرين، كما يقول. وظلت درنة تحت الحكم العثماني المباشر حتى العام 1711، حيث أصبحت بعدها من أملاك الأسرة القرمنلية المتمرّدة التي استقلّت بحكم ليبيا حتى العام 1835.
علم الولايات المتحدة
في السنوات الأخيرة من حكم الأسرة القرمنلية وقعت المعركة الشهير باسم "الحملة البربرية الأولى" بين الولايات المتحدة الأميركية وحاكم ليبيا يوسف القرمنلي، وسببها استيلاء الأسطول البحري التابع لطرابلس الغرب على الفرقاطة الأميركية "يو إس إس فيلادلفيا" في أكتوبر/ تشرين الأول 1803، بعد أن جنحت إلى الشعاب المرجانية أثناء قيامها بدوريات في ميناء طرابلس.
وقام باشا طرابلس باحتجاز الفرقاطة الأميركية وقبطانها ويليام بينبريدج وجميع الضباط وأفراد الطاقم كرهائن، بدعوى عدم دفع الأتاوة المفروضة على السفن الأميركية التي تعبر في المياه الإقليمية التابعة لباشا طرابلس. وبعد مفاوضات عقيمة استمرت حتى فبراير/ شباط 1804 قرّرت الولايات المتحدة إغراق الفرقاطة المحتجزة لمنع استخدامها من جانب العدو. وقد قاد عملية الإغراق الكابتن ستيفن ديكاتور بمساعدة مفرزة صغيرة من مشاة البحرية الأميركية كانت على متن سفينة تتبع لباشا طرابلس استولي عليها في وقت سابق، وأعيدت تسميتها باسم "يو إس إس أنتريبد"، تسللوا عن طريقها إلى السفينة فيلادلفيا وأشعلوا النار فيها.
ولم تكتف السفن الحربية الأميركية بذلك، بل هاجمت طرابلس في 14 يوليو/ تموز 1804، في سلسلة من المعارك غير الحاسمة، أكثرها تأثيرا هجوم فاشل على ميناء طرابلس بقيادة الكابتن ريتشارد سومرز أدّى إلى مقتله هو وطاقمه بأكمله.
انتقام أميركي
ونتيجة لذلك، قرّرت الولايات المتحدة الانتقام من باشا طرابلس يوسف القرمنلي شخصيا، لتحرير رهائنها بالقوّة، وعثرت على أخ له يدعى أحمد القرمنلي سبق أن استولى يوسف باشا على كرسي حكمه وطرده خارج ليبيا، فقررت الولايات المتحدة دعمه للعودة إلى طرابلس بوصفه الحاكم الشرعي.
كلف بالمهمة القنصل السابق في تونس ويليام إيتون (1764 – 1811)، وهو ضابط سابق في الجيش الأميركي، والملازم الأول في مشاة البحرية بريسلي أوبانون (1776 - 1850)، وشُكّلت قوة من مشاة البحرية الأميركية، وجيشا من المرتزقة العرب واليونانيين والبربر، يبلغ قوامه خمسمئة مقاتل، وانطلقت الحملة من الإسكندرية، شمالي مصر، بعد أن قطعت في الصحراء مسافة 500 ميل تقريبا. وفي 27 أبريل/ نيسان 1805، استولى إيتون على بلدة درنة.
اتخذنا موقعا على تلة قرب درنة، وخرج العديد من الزعماء للقاء الباشا أحمد القرمنلي مع تأكيدات بالولاء له. علمت منهم أن المدينة مقسمة ثلاثة أقسام، اثنان منها مواليان ليوسف باشا، وثالث لأحمد باشا
ويليام إيتون
وقد وصف إيتون احتلال هذه البلدة في رسالة إلى النقيب صامويل بارون (1765 – 1810)، من البحرية الأميركية، بعد يومين فقط من انتصاره على حاكم المدينة، حيث تحدث عن الصعوبات التي واجهتهم منذ خروجهم من الإسكندرية، ومنها بطء تحرك قوات المرتزقة الذين كانت ترافقهم عائلاتهم وقطعانهم. وكذلك مزاجهم السيئ الذي يجعل من الصعب السيطرة عليهم، وقلة الطعام، وتضارب المعلومات. ويشيد إيتون بظهور السفينة الأميركية أرغوس التي قدمت لهم الطعام والدعم اللوجستي، وأحيت الأمل في نفوسهم.
وصف الهجوم
ويصف الهجوم على درنة بقوله: "في صباح يوم 25 أبريل، اتخذنا موقعا على تلة قرب درنة، وخرج العديد من الزعماء للقاء الباشا أحمد القرمنلي مع تأكيدات بالولاء له. علمت منهم أن المدينة مقسمة ثلاثة أقسام، اثنان منها مواليان ليوسف باشا، وثالث لأحمد باشا. هذا القسم، على الرغم من أنه أقل عددا، إلا أنه كان الأفضل من حيث الموقع والمؤن والدفاع. في صباح يوم 26 أبريل عرضنا على باي المدينة الاستسلام مقابل إبقائه في منصبه، ولكنه رد: "رأسي أو رأسك!".
ويضيف: "في الساعة الثانية ظهرا، اكتشفت السفينة نوتيلوس وتحدثت إليها في الساعة السادسة مساء، وفي صباح يوم 27 ظهرت السفينتان أرغوس وهورنت ووقفتا مقابل المدينة، ولذلك قمت على الفور بتحريك الجيش وتقدّمت نحو المدينة عبر منحدر صخري شديد الوعورة".
ويتابع إيتون في رسالته: "بمساعدة إسناد مدفعي من السفن الأميركية استولينا على قلعة قديمة تطلّ على المدينة تقع في الجهة الجنوبية الغربية.. هاجمنا ملاذهم الأخير والوحيد، واندفعنا للأمام ضدّ مجموعة من الهمج، البالغ عددهم عشرة مقابل كل واحد لدينا، فهربوا بشكل عشوائي، وأطلقوا النار على أشجار النخيل أثناء تراجعهم. وفي هذه اللحظة أصابت طلقة معصمي الأيسر حرمتني من استخدام بندقيتي. تقدّم مشاة البحرية واليونانيون وغيرهم من المهاجمين واستحوذوا على النقطة العسكرية الحصينة، وزرعوا العلم الأميركي على أسوارها، ووجّهوا بنادقهم نحو جنود العدو، الذين فرّوا خارج المدينة". ويقول إيتون إن خسائر المهاجمين كانت أربعة عشر قتيلا وجريحا، ثلاثة منهم من مشاة البحرية الأميركية، واحد ميت والآخر يحتضر، والباقون معظمهم من اليونانيين.
وعلى الرغم من هذا الانتصار، عادت قوات يوسف باشا لتفرض حصارا على القوات الغازية، الأمر الذي دفع حكومة الولايات المتحدة إلى توقيع معاهدة إنهاء الحرب في 10 يونيو/ حزيران 1805 والتي عرفت باتفاقية طرابلس. وطلب يوسف باشا القرمنلي من الولايات المتحدة غرامات مالية تقدر بثلاثة ملايين دولار ذهبا، وضريبة سنوية قدرها 20 ألف دولار سنويا، وظلت الولايات المتحدة تدفع هذه الجزية حماية لسفنها حتى سنة 1812، حيث سدّد القنصل الأميركي في الدولة العثمانية 62 ألف دولار ذهبا، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسدّد فيها الضريبة السنوية.
إطلاق اسم درنة على قرية أميركية
وبمعزل عن النتيجة النهائية للحرب، صدر قرار عن "مجلسي الشيوخ والنواب في الولايات المتحدة الأميركية المجتمعين في الكونغرس بتكريم الضباط الأميركيين ويليام إيتون، القائد العام للحملة، وبريسلي إن. أوبانون، وجورج واشنطن مان بسبب شجاعتهم ورفع النسر الأميركي للمرة الأولى في أفريقيا، على أسوار حصن تابع لباشا طرابلس، مما ساهم في إطلاق سراح ثلاثمئة أسير أميركي من العبودية في طرابلس".
طلب يوسف باشا القرمنلي من الولايات المتحدة غرامات مالية تقدر بثلاثة ملايين دولار ذهبا، وضريبة سنوية قدرها 20 ألف دولار سنويا، وظلت الولايات المتحدة تدفع هذه الجزية حماية لسفنها حتى سنة 1812
وقرّر المجلسان، كشهادة أخرى على امتنان بلادهم، أن يُطلب من رئيس الولايات المتحدة إجراء مسح ضمن حدود الأراضي العامة للولايات المتحدة المفتوحة الآن للبيع، بحيث يختار ويليام إيتون المذكور، بلدة تبلغ مساحتها ستة أميال مربعة ستُسمى درنة، تخليدا لذكرى غزو تلك المدينة إلى الأبد. ومنح ويليام إيتون المذكور في منطقة واحدة كاملة داخل البلدة المذكورة مساحة ألف فدان، وإلى بريسلي أوبانون وجورج واشنطن مان، كل فرد منهما مساحة ألف فدان، وإلى آرثر كامبل، وبرنارد أوبريان، وديفيد توماس، وجيمس أوين، الناجين الوحيدين من مشاة البحرية الذين خدموا كمتطوعين في تلك الحملة، ثلاثمئة وعشرين فدانا لكل منهم، لتمنح لهم ولورثتهم ومن يتنازلون لهم إلى الأبد.
مصير حزين
بعد هذه الحرب؛ عادت درنة لتختفي في صفحات كتب التاريخ، وقد وصفها الوزير السوري السابق محمد سعيد الزعيم (1905- 1963) حين زارها في العام 1957 بأنها مدينة تسير على طريق الحداثة حيث قال: "بعد سير ساعتين ونصف من طبرق مساء، قطعنا خلالها 170 كم، وصلنا درنة وقد نزلنا إليها من الصحراء انحدارا حتى بلغناها على البحر، وحللنا في فندق أسسه الإيطاليون وسموه باسم الجبل الأخضر، روضة ليبيا الغناء، فنكون قد قطعنا في ذاك اليوم 850 كم.وأفقنا في الصباح الباكر، نتفرج على معالم المدينة التي كثيرا ما ذكرت في حروب طرابلس وبرقة بين الأتراك والبرقاويين والطليان، والتي تشع منها مظاهر الحياة الحديثة حيث لا تزال فيها جالية إيطالية، كما أن فيها تجارة ومتاجر ومكتبات عربية. وتحيط بدرنة من جهة الجبل بقايا سور حديث بناه الإيطاليون لصد هجمات المدافعين العرب الأحرار القادمين من الصحراء".
تعرضت درنة خلال حكم القذافي الطويل، ونتيجة مناوأة بعض أبنائها لثورته، للقصف بالطيران وسوق العشرات إلى المعتقلات، وكانت لها مساهمة مهمة في ثورة فبراير/ شباط عام 2011، ولكنها وقعت بعد ذلك بيد جماعات إسلامية متطرفة عزلتها عن العالم، وبطشت بأهلها، إلى أن وقعت كارثة الفيضان فأعادتها إلى دائرة الضوء من جديد.