كفى بجسمي نحولا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم تَرني
المتنبي
"النحافة سلوك ساذج لمن يرغب في أن يكون ذكيا"، كتب رولان بارت هذه العبارة في كتابه عن نفسه، تعليقا على صورة أخذت له في ثلاثينات القرن الماضي. وقتها كانت النحافة تأخذ هذا المعنى "الإيجابي"، وتُربط لا بالجمال أو الصحة، وإنّما حتى بوظائف ذهنية. وهي لم تكن كذلك على الدوام، ولم يكن حالها كذلك عند أغلب الثقافات. فخلال قرون، وعند كثير من الثقافات، اعتبرت البدانة، وليس النحافة، العلامة على الصحة والغنى والقوة. يشير بعض علماء الإناسة إلى أنه، في بعض البلدان الأفريقية، كان شيخ القبيلة يسهر على رعاية بدانته خلال شهرين استعدادا لتوليه أمور القبيلة. كأن هيبة الشيخ ورخاء القبيلة مرتبطان ببدانته هو. وعند كثير من الثقافات كانت بدانة النساء علامة على جمالهن، بل وحتى على خصوبتهن. كان الوازن ثُقلا، وازنا قيمة.
لا مكان هنا في طبيعة الحال لمعايير ترتبط بالصحةَ، تحدّ من حرية تناول أشكال الأطعمة جميعها. فقد كان يُنظر إلى التغذية على أنها دائما فعل بنّاء، ولم يكن الإفراط في أكل مواد بعينها، كالدهنيات أو السكريات، يُعتبر مصدر ضرر للأجسام، وإنّما كان، على العكس من ذلك، منبعَ قوة وجمال. كان توفّر أطعمة غنية بهذه المواد يُعتبر، خلال القرون الوسطى الأوروبية، علامة نبالة ورخاء. وكانت النحافة ترتبط بالفقر والمجاعة والمرض.
لا يعني ذلك غيابا مطلقا لاعتبار النحافة موضع جمال. ففي ما يتعلق بثقافتنا يحاول عبد الفتاح كيليطو أن يفسر ارتباط الحب والغزل بالنحول في المخيال العربي، فيكتب: "كان التقليد الشعري يصوّر العاشق، لا مصابا بالأرق فحسب، بل مصابا أيضا بفقد الشهية للطعام. لذا فإن عاشقا سمينا يبدو مزيجا من الأضداد، بل بذاءة. ويبلغ الأمر ذروة الهزل لما يكون العاشق شاعرا".
في أوروبا، ومنذ نهاية القرن السادس عشر وخلال السابع عشر، ظهرت بوادر تراجع البدانة كقيمة. يؤكد ذلك ظهور بعض اللوحات الفنية التي تتخذ موضوعا لها أجسادا غير مكتنزة. لكن، كان ينبغي انتظار القرنين المواليين، وخصوصا القرن التاسع عشر الأوروبي، مع النزعة الرومانسية، كي يَفرض نموذجٌ جديد للجسد نفسه، فيأخذ في تحميل الجسد البدين قيما سلبية، ليقرنه بالسوقية والابتذال والخشونة، وليربط الجمال بالنحافة والشحوب والخفة. فما كان من قبل علامة على فقر ومرض وكآبة، سيغدو نموذجا جماليا.
كان يُنظر إلى التغذية على أنها دائما فعل بنّاء، ولم يكن الإفراط في أكل مواد بعينها، كالدهنيات أو السكريات، يُعتبر مصدر ضرر للأجسام، وإنّما منبعَ قوة وجمال
لم يكن الرومانسيون، نقادا وشعراء ومترجمين، يقبلون شخصيات أدبية مكتنزة شحما. يذكر كيليطو ملاحظة قيّمة في هذا الباب نسبها إلى أحد أساتذته: "مشكلة هاملت هي أنه كان بدينا، لكن نادرون هم النقاد الذين أكّدوا هذا المظهر من شخصيته. لن يخطر ببال أحد من المخرجين المسرحيين أن يُسند الدور إلى ممثل ذي كرش. غير أن نص شكسبير صريح في هذه النقطة: قالت والدة هاملت بوضوح إن ابنها fatأي "سمين"، لكن الترجمة الألمانية لشليغل تترجم الكلمة بـ"متهيّج". ما كان الرومانسيون ليقبلوا ببدانة هاملت... وهكذا صُحّح شكسبير وحُسّن على نحو ما، تمت خيانته للحفاظ على صورة لهاملت كئيب، وجداني، لن يكون إلا نحيلا".
في سياق الإعلاء من شأن النحافة هذا، ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ستُعلَن الحرب على ثقل الأوزان، ليبدأ الناس ينتبهون إلى أوزانهم. ولتزدهر طرق التخلص من الأوزان الثقيلة، وتبدأ مقاييس جمال الجسد و"تدبيره" في الظهور عند نهاية القرن، ولتدخل الموازين الشخصية البيوت بهدف مراقبة الأجساد وضبط نموها.
على الرغم من ذلك، كان ينبغي انتظار العقد الثاني من القرن الماضي كي تنتشر الثورة الحديثة للخفة، فيعمّ هوس النحافة الطبقات الاجتماعية جميعها، ولا يعود حكرا على فئات بعينها، ووقفا على الإناث وحدهنّ. ففرضت نحافة الجسد نفسها على الجميع بشكل فعلي. ولم يعد الأمر يتعلق بالتحايل على "الزوائد" كي لا تظهر، كاستعمال اللباس الضيق أو ما شابهه، وإنّما أصبح يتعلق بالقضاء الفعلي على البدانة. فلم تعد حيل التشبّه بالنحافة كافية، وإنما ظهر بوضوح سعي حقيقي نحو الخفة و"الرشاقة" والتحكّم في الذات. فأخذت ثقافة التغذية تنحو منحى جديدا وتهتدي بمعايير بعيدة عن نصائح الأطباء. ذلك أن هذا النهج في التغذية لم يعد بالضرورة اتباعا لحمية نصَح بها طبيب، وإنما صار، في الأغلب الأعم، سلوكا يتبع موضات، ويقلّد نجوم الشاشات الصغيرة والكبيرة. بل إنّ العصر بكامله سينحو نحو خفة معمّمة فيسعى الوجود نحو الخفة معمارا ولباسا وصناعة وتغذية.
لم تعد النحافة إذن قيمة جمالية ولا صحّية فحسب، بل حُشرت ضمن أشكال أخرى اتخذتها "خفة العصر". لذا فإنّها صارت صناعة وسوقا جماهيرية ما فتئت تتسع. هذه السوق متعددة الأبعاد، تشمل منتوجات غذائية ورياضية، وأشكالا من الأغذية البديلة، كما تضم أيضا قاعات لتدبير الأجساد و"صقلها"، وخدمات تقدَّم لمن يريد أن يتخفّف من ثقل جسده. يشهد على ذلك انتشار المنتوجات المخفّفة، انطلاقا من ثمانينات القرن الماضي، وهي اليوم تكاد تشكل سوقا موازية لسوق المنتوجات التي كانت تستهلك في ما سبق. كأن المستهلك أصبح يتعمّد استهلاك ما ليس طبيعيا، وما لا "يغني" جسمه، ويبحث عن قصد عن أغذية تزوّد جسمه أقل ما يمكن من الطاقة. إنه إذن تغيّر عميق في "فلسفة التغذية" وانتقالها من إيروس إلى تناتوس، فبعدما كان يُنظر إليها على أنها بنّاءة، أصبحت تُعتبر أداة هدم وتدمير.
كسّرت النحافة الروابط التي كانت تشدها إلى مرونة الأجساد الرشيقة الناعمة، لكي تسعى نحو تجاوز الحدود استجابة لمتطلبات مجتمع الاستعراض والفرجة
ابتداء من ستينات القرن الماضي ستعرف قيمة نحافة الجسد تطورا ملحوظا مبالغا فيه، إلى حدّ أن بعض مبالغات تخفيف الأوزان أصبحت من الخطورة بحيث أوقعت كثيرات ضحية مرض الأنوراكسيا. فانتشر هوس تخفيف الأوزان، وتضافرت عوامل متعددة للدفع إليه، والسعي نحو النزول إلى أرقام قياسية لا تكفّ عن النقصان. فكسّرت النحافة الروابط التي كانت تشدها إلى مرونة الأجساد الرشيقة الناعمة، لكي تسعى نحو تجاوز الحدود استجابة لمتطلبات مجتمع الاستعراض والفرجة. وهذا السعي ما فتئ يتسارع. وربما يكفي لقياس تسارعه أن نذكر أنه إذا كانت الفائزات في مسابقة الجمال الأميركية لسنة 1920 يزنّ في المتوسط 63،5 كلغ بطول 1،73، فإن الفائزات سنة 1980 لم يتعدّين 53 كلغ بطول 1،76. إضافة إلى ذلك، فبينما كانت مجلة "جمالك" سنة 1929، تنصح السيدة التي يبلغ طول قامتها مترا وستين سنتمترا ألا يتعدّى وزنها المثالي ستين كيلوغراما، فبعد مرور عشر سنوات فقط، أصبحت المجلة ذاتها تنصحها بألا يتجاوز وزنها واحدا وخمسين كلغ ونصف الكيلوغرام. كأن الهدف من وراء تخفيف الوزن لم يعد البحث عن جسم رشيق مطواع، أو جسم نشيط مستعد للحركة، كما لم يعد حتى الظهور بمظهر الذكاء والتيقظ والثقة بالنفس، بل ربما لم يعد يأبه بالجسم نفسه، وإنما غدا يستهدف النحافة في ذاتها ومن أجل ذاتها، همّه الأساس هو المجاهدة لتحطيم الأرقام القياسية، وتخطي المعايير، وتحدّي الذات.