في العام 2010، استضاف معمر القذافي قمة عربية في "مركز واغادوغو" للمؤتمرات بمدينة سرت. قاعات رخامية فخمة. ممرات واسعة وعالية. مشاورات ثنائية وجماعية بين القادة العرب. ألقوا الخطابات والبيانات، وأصدر "رئيس القمة" القذافي بيانا تناول قضايا كبرى عربية وأفريقية ودولية.
أكثر ما لفت انتباهي حينها في تلك المدينة المجاورة للبحر والمحاطة بالحقول، أن الحلويات والخضراوات والفواكه والمأكولات والأسماك التي قدمت للقادة العرب، لم تكن ليبية ولا حتى عربية. كانت تركية. القصور التي أقام فيها الضيوف خلال يومي القمة، شيدتها شركة تركية على عجل، أو وفرتها سفينة تركية عائمة، لتلبية حاجة "الأخ العقيد" لاستضافة مؤتمر القمة العربية في مدينته، مسقط رأسه.
تلك البلاد العائمة على الثروات والمكتنزة بالأموال والمزنرة بالسلاح والصواريخ، لا تضم منازل لضيوفها القادة في قمة عربية تعقد في ربوعها. ذاك القائد الذي حكم لعقود مطوّقا نفسه بأبرز التسميات وأرفع الألقاب: "إمام المؤمنين"، و"ملك ملوك أفريقيا"، و"قائد الثورة"، و"رئيس مجلس قيادة الثورة"، و"الأخ العقيد". ذاك "القائد الأممي الأخضر" الذي مزق ميثاق الأمم المتحدة على منصة المؤسسة الأممية، كان عاجزا عن زرع شجر الزيتون والخضراوات والفواكه، وصيد السمك، وإعمار المنازل والبيوت. أو لم يفكر في هذه القضايا "التافهة" في رحلته الأممية الكبرى.
أسباب الكارثة تعود إلى أيام القذافي دون تبرئة أيام ما بعد القذافي. تاريخ هذه المدينة، مليء بالفيضانات، ضربتها في الأربعينات والخمسينات والستينات
مناسبة هذا الكلام، هي كارثة درنة، شرقي ليبيا، التي طمر الكثير من أهلها بوحل الفيضان، أو رمتهم المياه في حلق البحر الأبيض المتوسط. أسباب الكارثة تعود إلى أيام القذافي دون تبرئة أيام ما بعد القذافي. تاريخ هذه المدينة، مليء بالفيضانات، ضربتها في الأربعينات والخمسينات والستينات. وبعد "ثورة الفاتح"، بنت شركة يوغوسلافية من بلاد "الرفيق تيتو" سدين في مدينة "الأخ العقيد" في السبعينات. الهدف حماية المدنيين من أهوال الفيضانات. "سد أبو منصور" على بعد 13 كيلومترا من درنة. "سد البلاد" على بعد كيلومتر واحد فقط من هذه المدينة الساحلية.
هذان السدان في ليبيا لا يختلفان عن تلك التي بنيت في كثير من دول عربية، في سوريا ومصر وغيرهما. سدود سياسية وضعتها الكتلة الشرقية الصديقة، أمام المد "الإمبريالي" الغربي. وفي 1998، أبلغت إدارة السدود الليبية سلطات القذافي بوجود شقوق في السدين. توصية إيطالية كانت ببناء سد ثالث لتخفيف الضغط عنهما. وبتغير التحالفات والأيام، أوكلت طرابلس إصلاح السدين إلى شركة تركية في العام 2007، لم تستطع القيام بالعمل إلى 2010.
الطرفان المنقسمان والمتحاربان في طرابلس وبنغازي كانا قادرين على ترك أنهار الدماء والضربات جانبا والاتفاق على صفقة تبقي على تشغيل المؤسسة النفطية لإنتاج حوالي 1.5 مليون برميل يوميا، في بلاد تمتلك احتياطيات النفط الأكبر في أفريقيا
وبعد الإطاحة بالقذافي وقعت عملية إصلاح السدين ضحية الانقسام السياسي والجغرافي الذي ضرب البلاد ومزقها، بين حكومة معترف بها دوليا في الغرب، وأخرى مدعومة من بعض الدول في الشرق.
كان الطرفان المنقسمان والمتحاربان في طرابلس وبنغازي قادرين على ترك أنهار الدماء والضربات جانبا والاتفاق على صفقة تبقي على تشغيل المؤسسة النفطية لإنتاج حوالي 1.5 مليون برميل يوميا، في بلاد تمتلك احتياطيات النفط الأكبر في أفريقيا.
اتفق أثرياء الحرب، على النفط واختلفوا وماطلوا حول المياه. في كل عام منذ 2011، خصصت موازنة لإصلاح السدين، لكنها لم تجد طريقها إلى الورشات، رغم التحذيرات المتكررة من "كارثة قادمة".
قتلى درنة ضحايا عقود من الإهمال والانقسام والفساد. آخر تعبير عن كل ذلك، أن أولئك الذين نجوا من أكوام الوحل وأمواج الفيضان في درنة، هم إما عطشى وإما ماتوا من شرب مياه مسمّمة.
مدينة في بلاد بنى "القائد" فيها "النهر الصناعي العظيم" وتسبح على بحار من النفط... يبتلع البحر أهلها ويموت الناجون من بطن الفيضان، عطشا أو تسمما.