صابرين فرحات بلليل، التي قالت إنها فقدت شقيقها وزوجته وخمسة من أطفاله عندما ضربت الفيضانات مدينتها، تبكي وسط الأنقاض بجوار منزل شقيقها المدمر، وتأمل في العثور على جثثهم لدفنها. درنة في 17 سبتمبر
لم تكن الطبيعة حليمة بدول شمال أفريقيا التي عانت خلال أسبوع واحد من زلزال مدمّر ضرب إقليم الحوز في المغرب، وفيضانات وسيول وانجرافات كارثية أصابت مدينة درنة الليبية. وقد خلّفت الفاجعتان غير المسبوقتين عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين والمنكوبين والنازحين. وقدّرت مجموعة "الليانز" الألمانية للتأمين مجموع خسائر الإقتصاد العالمي هذه السنة من جرّاء الكوارث الطبيعية، بنحو 600 مليار دولار، أي نحو 0,6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما رجّحت أن تتجاوز الخسائر تريليون دولار في نهاية السنة.
لم تكن هذه المنطقة حاضرة يوماً في الإعلام الدولي كما هي الآن، لكنّ أخبارها جاءت حزينة ومؤسفة ومأسوية: صور الموت والدمار، وانتشال الجرحى والموتى من تحت الركام والسيول والأتربة، والمقابر الجماعية، والأسر المكلومة، والنوم في العراء، والبحث عمّا تبقى من أسر شتتها الزلزال أو حال بين أفرادها الطوفان؛ قرى طمرت تحت الأنقاض في جبال الأطلس المغربية، وبيوت جرفتها السيول وفيضان السدود المُهدَّمة على ساحل البحر المتوسط في ليبيا. صورتان لمأساة واحدة عنوانها: الطبيعة تقتل في دول المغرب العربي الكبير.
بعد دفن القتلى، ومداواة الجرحى، وإحصاء عدد الضحايا والمفقودين، وإيواء المشردين والمنكوبين والنازحين، الفاقدين أهلهم ومنازلهم، ستقوم الحكومات، ومعها المؤسسات والمنظمات الدولية المختصة، بإحصاء الخسائر المادية، وتكلفة إعادة الأعمار، وحجم الأضرار، ومدة الإنجاز. وفي كل الكوارث الطبيعية فإن ما دُمّر في دقائق أو حتى ساعات يحتاج إلى سنين لإعادة بنائه، وبتكلفة تتجاوز قدرات الدول المتضررة وإمكاناتها الإقتصادية والتمويلية. وفي مطلق الأحوال تحتاج هذه الدول إلى سند دولي، ومدّ يد العون إليها من الأصدقاء والأشقاء.
قدّرت "هيئة المسح الجيوفيزيائي الأميركي" خسائر زلزال الحوز في جبال الأطلس بنحو 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل نحو 11 مليار دولار. وهي قيمة توازي خسائر الإقتصاد المغربي عام 2020 جراء جائحة "كوفيد-19
وفيما تبدو أرقام الضحايا والخسائر في درنة الليبية هائلة ومفتوحة على كل الاحتمالات ... أطلق المغرب عملية إيواء موقتة ومستعجلة للمتضررين، إما في المكان نفسه، أو في فضاءات استقبال تتوفر فيها الشروط المطلوبة، مما يحميهم من ظروف الطبيعة، والمناخ البارد في تلك الجبال.
كما تقرر صرف مساعدات عاجلة للمتضررين بمبلغ 30 ألف درهم لكل أسرة، أي ما يعادل نحو 3,1 آلاف دولار. وشدّد ملك المغرب محمد السادس، الذي رأس الاجتماع المصغر للحكومة لتدبير آثار زلزال الحوز، على ضرورة اتخاذ مبادرات فورية لإعادة الإعمار، على أن تتم بإشراف تقني وهندسي وفي انسجام تام مع خصوصية المنطقة وتراثها المعماري التاريخي، انطلاقا من برنامج مدروس لإعادة بناء المناطق المتضررة وتأهيلها، ورفع جودة الخدمات العامة فيها.
وستحصل العائلات المتضررة على مساعدات مالية مباشرة بقيمة 140 ألف درهم، أي ما يعادل نحو 14,2 ألف دولار للمساكن المنهارة تماما، و8 آلاف دولار للمساكن التي تحتاج إلى ترميم وإعادة تأهيل. وتتولى موازنة الدولة تحمّل التكلفة المالية، وسيكون الأمر مفتوحا للمساهمين من القطاع الخاص، وأيضا للدول الشقيقة والصديقة التي ترغب المشاركة في هذا المجهود الإنساني.
دور شركات التأمين لتغطية الخسائر
وقدّرت "هيئة المسح الجيوفيزيائي الأميركي"(US Geological Survey) ، خسائر زلزال الحوز في جبال الأطلس بنحو 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل نحو 11 مليار دولار. وهي قيمة توازي خسائر الإقتصاد المغربي عام 2020 جراء جائحة "كوفيد-19"، التي لا تزال بعض تداعياتها الاجتماعية ظاهرة في أكثر من مجال. وبما أن المناطق الجبلية المتضررة تحسب ضمن الأقاليم الأقل نموا في المغرب، فإنّ تكلفة إعادة الإعمار ستكون مرتفعة جداً، وقد تؤثر على التوازنات الماكرو – إقتصادية، كما يحتاج الأمر إلى تمويلات خارجية، وموازنة للتعويض عن الضرر.
ويمكن للمغرب الحصول على تعويضات عن الكوارث الطبيعية من شركات التأمين المغربية أو فروع الشركات العالمية، وأيضاً من "البنك الدولي" في واشنطن. وكان المغرب استكمل قبل عامين، مع صندوق النقد الدولي، ترسانة قانونية متكاملة صادق عليها البرلمان، ودخلت حيّز التنفيذ عام 2021، لتغطية التأمين على الكوارث الطبيعية، والإفادة من خبرة مؤسسة "غالاغر ري" (Gallagher Re) لتدريب "صندوق التضامن ضدّ الوقائع الكارثية"، على تقييم حجم الأضرار وتحديد قيمة التعويض الذي ينبغي صرفه لكلّ متضرر.
وحدد القانون الكوارث الطبيعية بالزلازل، والفيضانات والسيول الأرضية، وارتفاع مياه البحر، وانهيار السدود، والمنشآت المائية وحرائق الغابات وغيرها من الحوادث التي تحدث بفعل الطبيعة، وليس بعامل بشري. وبحسب القانون، فإن إضفاء طابع الكارثة الطبيعية على حادث ما، يجب أن يتم بقرار صادر عن رئيس الحكومة، خلال فترة لا تتعدى الثلاثة أشهر من تاريخ وقوع الحادث.
وأفادت مجموعة البنك الدولي في واشنطن، إنّ هناك تأمينا دوليا (إعادة تأمين) قامت به السلطات المغربية، وإنّ هذه الآلية ستمكّنها من الحصول على تعويض مالي بقيمة 250 مليون دولار، يمكن توظيفها إلى جانب الاعتمادات المالية المرصودة في الموازنة، ومداخيل التأمين ضد الكوارث الطبيعية، لصرف التعويضات المنصوص عليها قانونا لصالح المتضررين، إمّا بوصفهم عملاء شركة تأمين معينة، أو في إطار تضامن وطني في حال لم يكن لديهم أي تأمين.
صندوق تدبير الزلزال
وأطلق المغرب "الصندوق الخاص بتدبير آثار زلزال الحوز" بتعليمات من الملك، وصادق البرلمان بغرفتيه على فتح حساب خاص في "بنك المغرب" والخزينة العامة، لتلقّي المساعدات والتبرعات المالية من مختلف المساهمين، في الداخل والخارج. والغاية من إطلاق هذا الصندوق، هي جمع موارد مالية كافية لاستخدامها في تمويل جزء من مشاريع إعادة إعمار إقليم الحوز، الذي تبلغ مساحته 6000 كيلومتر مربّع، ويقع فوق تضاريس جبلية صعبة، تفرض إعادة تأهيل عمراني جديد، يستجيب لمتطلبات الأخطار الطبيعية مثل الزلازل، والفيضانات، وانجراف التربة، وتساقط الصخور من أعلى قمم جبال الأطلس الكبير (جبل توبقال) الأكثر علوا في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، بارتفاع 4165 مترا.
وكان صندوق مماثل أطلق زمن "كوفيد-19"، وتمكّن من جمع أكثر من 3,5 مليارات دولار في شهر واحد، وذلك من خلال مساهمات المواطنين والشركات الخاصة والإدارات العمومية. وتقوم جمعيات المجتمع المدني بحض المتبرعين على المساهمة في الصندوق الجديد لتخفيف معاناة المصابين.
#المغرب يقرر منح دعم مالي عاجل بقيمة 30 ألف درهم لكل أسرة متضررة من الزلزال، إضافة إلى دعم مالي مباشر بقيمة 140 ألف درهم للمنازل المنهارة بشكل كامل، و80 ألف للمنازل المتضررة جزئياً
واشار البنك الدولي الى أنّ المغرب وضع برنامجا استباقيا لإدارة أخطار الكوارث وتمويلها. وتشير التقديرات إلى أنّ الاستثمارات الحكومية في إدارة أخطار الكوارث تغطي، في المتوسط، ما يعادل 15 إلى 20 في المئة من حجم الخسائر المادية المسجلة.
وتعتبر منطقة شمال أفريقيا من المناطق المهددة بالكوارث الطبيعية مثل الزلازل، والفيضانات، والحرائق والتغير المناخي، وارتفاع الحرارة، أو الثلوج الكثيفة والسيول الجارفة، بحسب الفصول والسنين. لكنّها المرة الأولى التي ستتمّ فيها المطالبة بالتعويضات عن الزلزال، من المؤسسات المالية وشركات التأمين الدولية.
تعتبر منطقة شمال أفريقيا من المناطق المهددة بالكوارث الطبيعية مثل الزلازل، والفيضانات، والحرائق والتغير المناخي، أو الثلوج الكثيفة والسيول الجارفة. لكنّها المرة الأولى التي ستتمّ فيها المطالبة بالتعويضات عن الزلزال، من المؤسسات المالية وشركات التأمين الدولية
واعرب جان بول كونوسانت، المدير العام لتعويضات التأمين في مؤسسة "سكور" (SCOR)، عن اعتقاده بأنّ خسائر زلزال تركيا وسوريا بلغت نحو 45 مليار دولار، لم تسدّد شركات التأمين منها سوى خمسة مليارات دولار، أي نحو 10 في المئة، منها. أمّا في الحالة المغربية، فإنّ الفارق بين الخسائر الإقتصادية والتعويضات المؤمّن عليها سيكون كبيرا، بحسب شركة "فيتش ريتنغز" (Fitch Ratings)، وذلك بسبب ضعف التغطية من قبل شركات التأمين وإعادة التأمين، كون الخسائر وقعت في مناطق فقيرة وريفية، حيث ثقافة التأمين على المساكن شبه معدومة.
وقال روبير مازيولي، مدير "فيتش"، على هامش الاجتماع السنوي لشركات التأمين في موناكو الأسبوع الماضي، إن "المغرب يمكنه الحصول على 100 مليون دولار كتعويضات من صناديق التحوّط الاجتماعي الدولية، على اعتبار أنّ الكوارث الطبيعية مسألة أممية".
سنة الكوارث الطبيعية
وبحسب المدير العام لمجموعة "هانوفر ري" (Hannover RE) الألمانية، فإنّ 76 في المئة من الثروات المهدّدة بالكوارث الطبيعية في العالم غير مؤمن عليها، مما يشكّل عجزا في أقساط التسديد يقدّر بـ 368 مليار دولار سنويا. وهو ما يعني أن ثقافة التأمين تظل منحصرة في المجتمعات المتقدمة أو الفئات المشمولة بالتغطية، وتقلّ في المجتمعات الفقيرة أو داخل الفئات الأقل اندماجا في الاقتصاد العالمي. وتعتبر منطقة شمال أفريقيا إجمالاً، من المناطق الضعيفة التأمين، مقارنة بأوروبا القريبة.
وأفادت "هيئة مراقبة التأمينات والإحتياط الاجتماعي" في المغرب بأن الأقساط الصادرة عن شركات التأمين وإعادة التأمين، بلغت نحو 31 مليار درهم، أي ما يعادل 320 مليون دولار، في النصف الأول من 2023، بارتفاع نسبته 3,8 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام المنصرم، كما ارتفع فرع التأمين على "غير الحياة" بنسبة 8,6 في المئة، بينما عرف فرع "التأمين على الحياة" انخفاضا بنسبة 2,3 في المئة. وبلغ حجم نشاط التأمين وإعادة التأمين في المغرب نحو 5,5 مليارات دولار، وهو الأول في شمال أفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط، وذلك وفقاً لآخر تقرير سنوي عن الاستقرار المالي، نشره "بنك المغرب"، و"هيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي" (ACAPS) و"الهيئة المغربية لسوق المال" (Autorité Marocaine du Marché des Capitaux – AMMC).
مجموع خسائر الإقتصاد العالمي هذا العام جرّاء الكوارث الطبيعية، وارتفاع درجات الحرارة، والفيضانات، والسيول، وانهيار البنى التحتية، تقدر بنحو 600 مليار دولار، أي نحو 0,6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ورجّحت أن تتجاوز الخسائر تريليون دولار في نهاية 2023
مجموعة "الليانز" الألمانية للتأمين (Allianz)
بلغت خسائر الكوارث الطبيعية منذ مطلع السنة الجارية، نحو 120 مليار دولار، بحسب تقديرات شركة "سويس ري" لإعادة التأمين، ومن جهتها قدّرت مجموعة "الليانز" الألمانية للتأمين (Allianz)، مجموع خسائر الإقتصاد العالمي هذا العام جرّاء الكوارث الطبيعية، وارتفاع درجات الحرارة، والفيضانات، والسيول، وانهيار البنى التحتية، بنحو 600 مليار دولار، أي نحو 0,6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. كما رجّحت أن تتجاوز الخسائر تريليون دولار في نهاية عام 2023، وتشمل فيضانات الصين وباكستان وجنوب شرق آسيا وليبيا، وحرائق كندا والولايات المتحدة والبحر الأبيض المتوسط، وزلزال المغرب، وقبله زلزال سوريا وتركيا، وذلك فضلاً عن أعاصير لا تحصى في مناطق عدّة من الكرة الأرضية. وهذا ما قد يجعل العام 2023 أكثر الأعوام التي تخللتها كوارث الطبيعة. كما كانت شركات التأمين سدّدت 35 مليار دولار من خسائر العواصف الشديدة في الولايات المتحدة في النصف الأول من العام نفسه.
يعتقد أكثر من خبير جيولوجي بأن الكوارث الطبيعية الى ازدياد لأسباب جيوفيزيائية باطنية، وبسبب نشاط الإنسان، والمتغيرات المناخية، مما يجعل كل مناطق العالم مهدّدة، ولذلك يجب، وفق هؤلاء الخبراء، أخذ الحيطة والحذر تحسبا لكوارث أخرى مماثلة بصورة مفاجئة. وتوقع خبراء التغير المناخي في واشنطن أن ترتفع وتيرة الحرائق في العالم بنسبة 14 في المئة سنويا حتى 2030، على أن تزيد إلى 30 في المئة في أفق 2050، وتصل إلى 50 في المئة نهاية القرن الحالي، وهو ما سيكون له تأثير سلبي على الإقتصاد العالمي.
وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقع زلزالان مدمّران، الأوّل في شمال سوريا وجنوب تركيا، والثاني وسط المغرب، وذلك في أقل من ثمانية أشهر. وكان حوض البحر المتوسط يشهد، بين حين وآخر، هزّات أرضية على امتداد زمن طويل، من إيطاليا إلى الجزائر، ومن اليونان إلى مصر، ومن البرتغال إلى المغرب. كما كان يشهد أيضاً فيضانات موسمية تغمر البيوت والأزقة، لكن لم تصل قسوة الطبيعة إلى الخراب الشامل كما حدث هذه السنة.