انقسم اللبنانيون فريقين بعد تسلّم نائب الحاكم الأول وسيم منصوري زمام الحاكمية في مصرف لبنان خلفا للحاكم السابق رياض سلامة.
الفريق الاول، استمر في نظرته السلبية إلى المستقبل على أساس أن القائم بمهمات الحاكم وزملاءه نواب الحاكم الآخرين، لم يؤثر عنهم أي موقف معارض أو متمايز علني لخطط سلامة طوال السنوات الثلاثة الماضية.
الفريق الثاني، توسم خيرا بالبيانات العلنية التي صدرت عن نواب الحاكم السابق في الأيام التي سبقت انتهاء ولاية الأخير، وأهمها التأكيد أن مصرف لبنان لن يغطي أي عجز في الموازنة، وأية احتياجات عامة من الاحتياط الإلزامي للمصارف لدى مصرف لبنان إلا بموجب قانون. تم تعديل ذلك سريعا برفض إقراض الحكومة بشكل قاطع بالعملات الأجنبية أو من خلال طبع الليرة اللبنانية. وكان رأي منصوري أن تغطية عجز الموازنة يجب أن يتم من خلال تفعيل الجباية وخفض الانفاق.
كان هناك زهو بإعلان قرب إطلاق منصة "بلومبيرغ" لتكون متاحة أمام الجميع للتداول بالليرة والدولار، بدلا من منصة "صيرفة" التي أنشاها حاكم مصرف لبنان وتم من خلالها تبديد كم هائل من دولارات المودعين على فئات من المضاربين المحظوظين
يسجَّل للأخير ورفاقه أيضا ممارستهم الشفافية من حيث العودة اإلى نشر وضعيات مدققة عن العملات الأجنبية والذهب لدى مصرف لبنان، وتعديل بيان الموجز النصف شهري ليتلاءم مع معايير الشفافية للمصارف المركزية، وتشكيل لجنة لتعديل النظام المحاسبي تماشيا مع معايير المحاسبة الدولية. وكان سلامة ألغى منذ ولايته الأولى نشر أي بيان يتعلق بـ"صندوق تثبيت القطع" بحجة عدم إطلاع المضاربين على وضعيته، وأجرى، كذلك، تمويهات حسابية لإخفاء الخسائر وطمس الارتكابات.
وكان من المؤكد أنه سيكون ذو وقع لو أعلن نواب الحاكم في أول ظهور صحافي مشترك لهم، نشر ذممهم المالية بتفصيلاتها المختلفة لإطلاع الجمهور عليها وعلى تعديلاتها استجابة لتوصية صندوق النقد الدولي في تقريره عن لبنان لعام 2018.
يجدر التنويه أيضا بقرار تزويد الشركة التي قامت بالتدقيق الجنائي في مصرف لبنان، المستندات التي لم تتسلمها بعد، وبقرار هيئة التحقيق الخاصة تجميد الحسابات المصرفية للحاكم السابق ومقربين منه على خلفية قرارات تجميد مماثلة اتخذت في عدد من الدول بناء على تهم عديدة، ورفع السرية المصرفية عن هذه الحسابات.
كما أعلن منصوري باعتزاز، تأمين رواتب وأجور موظفي القطاع العام "بالدولار الفريش"، من دون المس بالاحتياط الإلزامي من العملات الأجنبية لديه، ومن دون أي تضخم للكتلة النقدية. وهو أمر انتقده البعض، نظرا إلى أن لا صلاحية للمصرف المركزي، بحسب قول الاقتصادي المشهور جوزف ستيغليتز، بالتمييز بين فئات الجمهور، خصوصا مع غياب تحقيق حول آلاف الموظفين الذين أدخلوا إلى القطاع العام خلافا للقانون.
أين بورصة بيروت؟
وكان هناك زهو بإعلان قرب إطلاق منصة "بلومبيرغ" لتكون متاحة أمام الجميع للتداول بالليرة والدولار، بالأسهم والعملات والمعادن وغيرها من الأدوات المالية، بدلا من منصة "صيرفة" التي أنشاها حاكم مصرف لبنان وتم من خلالها تبديد كم هائل من دولارات المودعين على فئات من المضاربين المحظوظين.
لا صلاحية للمصرف المركزي التمييز بين فئات الجمهور، بتوفير رواتب موظفي القطاع العام من دون تأمين أموال المودعين لدى المصارف، خصوصا مع غياب تحقيق حول آلاف الموظفين الذين أدخلوا إلى القطاع العام خلافا للقانون
يفترض أن تكون المنصة الجديدة شفافة، مما يبعد عن لبنان شبهة تحوله إلى مرتع لتبييض الأموال، ويؤسس نظريا لتحرير أسعار الصرف وتوحيدها وفقا لآلية العرض والطلب. لكن الاسئلة حول جدواها كثيرة: لماذا لم يكن قرار العودة إلى بورصة بيروت وردهة تبادل العملات لديها التي اثبتت نجاحها لعقود ذهبية؟ وهل يجوز بقرار من مجلس الوزراء تجاوز قانون بورصة بيروت الذي يجيز لردهتها تبادل العملات؟ وهل سيكون للأخيرة أو لهيئة الأسواق المالية دور للاشراف على المنصة الجديدة؟ وكيف سيكون ذلك؟ وما الحل إذا لم تتأمن الدولارات الكافية لتلبية الطلبات عليها؟ هل يعود مصرف لبنان إلى التدخل مستخدما الاحتياط الالزامي فتنقض العهود؟ أم يعود مجددا إلى السوق الموازية لجمع الدولارات، مما قد يدفع إلى ارتفاعات صاروخية في أسعار الصرف؟
كلام خطير...
في المقابل، يبدو واضحا من مقابلة منصوري مع قناة "العربية"، على هامش مشاركته في المؤتمر المصرفي العربي في السعودية أخيرا، وجود التباس لديه في قضايا مفصلية. ففي موضوع سعر الصرف الرسمي، ذكر منصوري أن سعر 15 ألف ليرة للدولار الواحد تحدد في قانون موازنة 2022 وليس من قبل مصرف لبنان! والصحيح أن هذا السعر الأخير تقرر لقضايا جمركية خلافا للأصول التي تقضي باحتسابه كمتوسط لأسعار الدولار في فترات سابقة، ليعلنه المصرف المركزي.
وظهر سريعا تباين بين وزير المالية ورئيس الحكومة في شأنه، إذ ذكر الأول أنّ المصرف المركزي سيتبنّاه كسعر صرف رسمي جديد بعد شهر من إعلانه، ثم عدل عن ذلك بقوله إن الأمر مرتبط بإقرار خطة التعافي. أما رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فذكر أن تطبيق سعر 15 ألف ليرة للدولار سيكون تدريجيا مع استثناءات. وجميع التصريحات السابقة لا تتماهى مع إعلان الحاكم السابق سلامة لعقود، بأن سعر الصرف الرسمي يحدده مصرف لبنان بالاستناد الى عمليات المصرف مع المصارف التجارية!
ظهر الالتباس أيضا في موضوع استعادة أموال المودعين. ففي تصريح سابق، أعلن منصوري أن لا جواب لديه عن هذا الموضوع! لكنه عاد وذكر في المقابلة التلفزيونية "أن مصرف لبنان سيتجند لوضع الإطار القانوني (مع الحكومة ومجلس النواب) لإعادة الودائع"، من دون إعطاء أي تفصيل.
وأضاف "أن إعادة تقييم المصارف تندرج في إطار ورشة تشريعية لإقرار من سيتحمل الخسارة، وهي مرتبطة بالتوازن المالي لتحديد الفجوة والمسؤوليات، وبالمصارف التي ليس لها القدرة على إعادة الودائع. وبعد التقييم، نستطيع أن نعرف من المصارف التي ستبقى وتلك التي لا تستطيع ذلك، وهي التي ستحال الى الهيئة المصرفية العليا، لكن لن تبدأ الإحالة قبل ذلك".
كلام في منتهى الخطورة، لأنه يعني استنساب عدم تطبيق أحكام قانونية نافذة الى حين صدور قانون مستقبلي، وحتى ذلك الحين، يستمر المصرف في إدارة من فقدوا الأهلية لذلك، لفشلهم في إعادة تكوين مراكز نظامية وقانونية، أخطرها رأس المال.
كلام وسيم منصوري في منتهى الخطورة، بأن "إعادة تقييم المصارف تندرج في إطار ورشة تشريعية لإقرار من سيتحمل الخسارة، وهي مرتبطة بالتوازن المالي لتحديد الفجوة والمسؤوليات، وبالمصارف التي ليس لها القدرة على إعادة الودائع ..."
يتمتع مصرف لبنان، وحاكمه بالتحديد، بصلاحيات واسعة، فالأخير يرأس السلطة الناظمة لشؤون المصارف، وهو المشرف على أداء لجنة الرقابة على المصارف، وهو رئيس هيئة التحقيق الخاصة، وأيضا رئيس الهيئة المصرفية العليا التي تقر العقوبات على المصارف المخالفة.
صلاحيات للإصلاح... أو للتهرب
يمكن لمنصوري وزملائه الافادة من هذا الأمر بإطلاق حملة إصلاح مصرفي شامل كونهم يملكون القرار في كل متطلبات هكذا حملة، وأهمها، تعيين مدير موقت للمصرف الذي تخلف عن تسوية أوضاعه، يدقق في جميع عملياته لتحديد الانحرافات المرتكبة وضبطها، وما اذا كانت تتضمن إفلاسا احتياليا لإحالة ملفه على القضاء. وأي تأخير في ذلك، سيرتب مسؤولية قانونية عن تفاقم الأوضاع، وسيعتبر خرقا للتعهد العلني باحترام القانون، وهو ما حصل من خلال التقاعس في اعادة النظر في التعاميم المصدرة بعد نشوء الأزمة، وحتى قبل ذلك، فغالبيتها تستند إلى تفسير مشوه لمواد قانون النقد والتسليف الذي يرعى عمل المصرف المركزي والمصارف بحسب شروح الأسباب الموجبة لهذا القانون.
تؤسس مشاريع القوانين التي ربط منصوري وزملاؤه بقاءهم بإقرارها، بوضوح، للتهرب من المسؤوليات وتمويه الانحرافات والحفاظ على الأرباح الخيالية التي تحققت من الربا الفاحش للهندسات المالية. وسيتم إقرارها من قبل مجلس للنواب، غالبية أعضائه، إن لم يكن جميعهم، كما أعضاء الحكومة، من الذين سحبوا أموالهم من المصارف أو هرّبوها إلى الخارج، مستندين إلى الامتيازات التي يتمتعون بها، مما يجعلهم غير مؤهلين لبت هذه المشاريع على أساس "تضارب المصالح". وسيثار الأمر بالطبع أمام المجلس الدستوري عند الطعن بها.