سيّدة الزعفران

سيّدة الزعفران

بوجهٍ موشوم الذقن، أطلّتْ علينا أم المغاربة من أنقاض قريتها المنسية التي خسف الزلزل بها الأرض، قريتها المعلقة في ترقوة الجبل المطل على وادٍ سحيق، كأنه بلا قرارة.

دامعة العينين الزمرديين تدلّ الشاب المسعف على تصدّعات بيتها الريفي المتداعي، وهي تعيش وحيدة في ذمة عزلة دامغة.

بأمازيغيّةٍ طاعنة في الشجن تفصح عن ليلة الزلزال الماحق الذي عصف بالإنسان والحيوان والبنيان، ولم يسلم حتى فرنها الطينيّ من سطوة الرجّة، ورماده لا يزال أخضر اخضرار وشمها على الذّقن، ذاك الخطُّ الذي يزجّ بألق وجهها في غابة علامات فاتنة، تقول بملء الرمز الممهور ما لا تقوله اللغة.

الوشم الأخضر المائل إلى الزرقة يتماهى مع زمرد عينيها الشبيهين ببحيرتين أطلسيتين، وهي تصعد الأدراج بشبشب فاقع اللون، منتصبة على العتبات كطيف شجرة أركان، ومرتادة الغرف المعتمة ككاهنة عارفة بخرائط الكنز المتواري في القبو مطبق الظلال.

وجهٌ كأنما أوّل من تشرقُ عليه الشّمس حتى آل بياضه إلى شفافيةٍ أرقّ من جناح يعسوب. هل كانت أمّ المغاربة تتكهّن أنّ وشم ذقنها الرقراق كخطِّ برقٍ أو عصا خيزران سيكون هو نفسه علامة الزلزال الذي سيمحو قريتها من خارطة الوجود.

للوشوم الأمازيغية ألف حكاية وحكاية، بدءا من التي تؤشّر على الزمن الأنثوي، منذرة بنضج المرأة المؤهّلة للزواج، وفي الوقت ذاته توقيعٌ ذهبيّ يحتاج إليه جمالها اللافت لكي يسبغ عليها معنًى.

وجهٌ كأنما أوّل من تشرقُ عليه الشّمس حتى آل بياضه إلى شفافيةٍ أرقّ من جناح يعسوب. هل كانت أمّ المغاربة تتكهّن أنّ وشم ذقنها الرقراق كخطِّ برقٍ أو عصا خيزران سيكون هو نفسه علامة الزلزال الذي سيمحو قريتها من خارطة الوجود

 

تتشجم الموشومات ألم الجرح بإبرة أو شفرة، مع رشّ  ماء مملّح بعد أن يُعبّأ الشّقّ  بالكحل وسخام الرماد مُرفقا بعشبٍ يروم التعقيم. لا جمال بلا جرح، وما يلي مخاض الجرح ولادة علامة غرائبية يصير معها الوجه ذا هوية جديدة، سواء كان خطّا، نقطة، حرفا، دائرة، شجرةً، نباتا، حشرة، حيوانا، نجمة... إلخ

لكلّ  قبيلة وشوم خاصة بنسائها، وكأنّ الوشوم ما يدلّ على هوية الأعراق بحسب تشعّب المناطق، وبذا يضطلع بعنوانٍ لسلالة بصيغة الجمع كيفما كان مفردا.

تقوّض تقليد الوشوم الأمازيغية مع التحريم الذي فرضه الإسلام، وتراجع حدّ التلاشي مع زحف التمدن والتحضّر، وما عاد لوجوده أثرٌ إلا في وجوه الأمهات المخضرمات والجدّات المعمّرات، وأم المغاربة المطلّة علينا من أنقاض الزلزال نموذج ثرٌّ لتاريخ الوشم الغائر، وشمها الذي يكتنز خطّه مأساةً طالما اعتقدناها خطّ نجاة أو حدّا بين ضفتين، بين عالمين نقيضين، صراطا يفصل جنة بجحيم، عصا موسى، أفعى، شاطئا يفصل مياها عن يابسة، صومعة...إلخ

خطّ يترف بلغزية إشارية تغني عن اللغة وأنساقها لصالح غموض فنّيّ متعدّد التأويل.

وإذ تحكي أم المغاربة بشدو أمازيغيتها الصقيلة، لا نكاد نقف على انسياب الكلام، بقدر ما نضيع في بلّور وجهها الأسيان، متأرجحين بين غابتي عينيها الدامعتين، وبين وشم ذقنها اللافت.

نستعيض عن اللغة بما يندلق من وشمها من ألغازٍ، ومن زمرد عينيها من صدى أزليٍّ يصدح بتاريخ الجبل وذاكرة الوادي.

كم تشبه الشقوق التي أحدثها الزلزال في حيطان بيتها الطينيّ عروق وجهها الشفاف، بل تلك الشقوق جمعاء كأنما ظلها الأصلي هو خط وشمها الصنوبري.

بعد أن انجرفنا في جرح الوشم أو شردتنا غابة عينيها، توقظنا أم المغاربة بما جعل ختام خطابها زعفرانا وليس مسكا، أم المغاربة التي كانت تدلّ الشاب المسعف على تداعيات الزلزال في بيتها الطيني المصدوع، تهزج بملء الكرم النهريّ المندلق:

أخبرني عن عنوان مسكنكَ  كي أرسل لك زعفرانا!

أبكتنا أم المغاربة سيدة الزعفران بعفوية كرمها الدامغ على الرغم من فرط قسوة الكارثة، هي التي ما عادت تملك شيئا بسبب سطوة الدمار، هي وقريتها التي آلت إلى يباب، لم تنس أن تردّ الجميل بوعدٍ ميقاته وطويته زعفران.

يستوجب الحصول على 500 غرام من الزعفران 70 ألف زهرة على الأقل، وتتكلّف النساء بجنيه في موسم يبدأ من منتصف أكتوبر/ تشرين الأول وينتهي في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني، وذلك في توقيت بالغ الدقة قياسه ثلاث ساعات قبل انفتاح زهراته صباحا تحاشيا لقيظ الشمس، إذ مصيره الذبول الكاسح. هكذا فالنسوة في الغالب للجني بحسب مهارة وخبرة المهمة والرجال للزراعة والسقي والعناية، والمغرب وفق اقتصاديات الإنتاج يعدّ رابع منتج في العالم بعد الهند وإيران وإسبانيا، وأما خارطته الجغرافية الأمثل فجهة سوس-ماسة بنسبة 57 في المئة وجهة درعة تافيلالت بنسبة 43 في المئة.

فضلا عن القيمة العلاجية للزعفران المستخدم في التركيبة الطبية، هو نبات عاطر السيرة بوّأته مواصفاته النادرة لكي يكون سلطان التوابل بلا منازع، فإضافة إلى استعماله الشائع في الشاي وتبهير الطبخ يلجأ إليه بعض الفنانين التشكيليين أيضا بالنظر إلى لونه الأحمر الذهبي، أو الأصفر الفان غوغي، زد على ذلك أفخم العطور المقطّرة من زهره البنفسجي.

لكلّ  مأساة مهما تعاظمت مضاعفات آلامها وفجائعيتها إشراقات مزهرة كزعفران أم المغاربة، فمن لواحق الرجّة الصادمة، التحام الشعب عبر أصقاع المغرب بالمناطق المنكوبة، متكفّلا بكلّ  صغيرة وكبيرة ملحاحة الطلب مقدّما أجمل عزاء، وكذا انفجار عيون مائية في أكثر من موقع جغرافي جافّ، كأنما الطبيعة ترتب أوراقها في سبيل تدويرٍ ينتصر للحياة، الحياة التي تتجدّد بجسارةٍ من رحم الموت المداهم الذي لا يعني نقطة نهاية، بقدر ما يعني خطًّا للامتداد واللامتناهي، هو نفسه الخطُّ الأخضر المائل إلى الزرقة في وشم سيدة الزعفران، أمّ المغاربة.

font change