السينما الفلسطينية الجديدة... مقاربات مختلفة لواقع معقّدhttps://www.majalla.com/node/299846/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%AE%D8%AA%D9%84%D9%81%D8%A9-%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9-%D9%85%D8%B9%D9%82%D9%91%D8%AF
غزّة: يحمل الجيل الجديد من السينمائيين الفلسطينيين، خصوصية شديدة، تواصل طرح القضايا التي طرحت سابقا، وفي مقدمها الاحتلال، لكنها تسعى إلى الابتعاد عن النمطيات السابقة. فبعد أكثر من سبعة عقود على الاحتلال الإسرائيلي، أضحت الصورة النمطية للنضال الفلسطيني، غير مستساغة لدى الشباب الفلسطيني، وصار من الضروري أن يقدم الفكر والفن الفلسطينيين أساليب جديدة ومقاربات مختلفة.
لعلّ اللافت في ما تقدمه السينما الفلسطينية الجديدة، هو النزول عن قمة الشجرة، من أجل البحث عن صيغة جديدة لتقديم همّ الإنسان الفلسطيني وتطلعاته نحو الحرية، بعدما فشلت جميع الطرق القديمة في اقتلاع الاحتلال من الأرض. وكأن هذا الجيل يشعر أن من واجبه طرح رؤية تساهم في تعزيز بقاء الفلسطيني في أرضه، عبر مواجهة الاستنزاف الدائم للمقدرات البشرية والاقتصادية، لكن برفض ذوبان الحق مع الزمن، والثبات على الفكرة والمعنى والصوت الداخلي، تلك الخيوط التي تربط الإنسان بجذوره، مهما اختلفت الظروف.
وقد اتخذت السينما الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة منعطفات لافتة في الطرح والتفكير، من أجل إبراز القصة الفلسطينية، فلم تعد حياة الفلسطيني مقتصرة على القتال، بل هناك تفاصيل شديدة الدقة، مرتبطة بالحياة اليومية للإنسان الفلسطيني وهي الأحق بالتناول السينمائي، من صورة الحجر والبندقية المألوفة.
لم تعد حياة الفلسطيني مقتصرة على القتال، بل هناك تفاصيل شديدة الدقة، مرتبطة بالحياة اليومية للإنسان الفلسطيني وهي الأحق بالتناول السينمائي، من صورة الحجر والبندقية المألوفة
وظهرت خلال هذا العقد الزمني الأخير، العديد من الأفلام الفلسطينية المعتمدة على السيناريو الرمزي الإيحائي، من خلال تجديد أسلوب السرد، وتجديد المخرجين لأدواتهم، وهذا ما فتح المجال أمام هذه الأفلام، للوصول إلى منصات التتويج والاحتفاء في المهرجانات والمسابقات العالمية، والأهم في هذا الجانب، وصول القصة الفلسطينية.
هنا العديد من الأفلام الفلسطينية المنتجة خلال السنوات الأخيرة، على سبيل النماذج لا الحصر، وجميعها حققت جماهيرية كبيرة، عبر الإعلام العربي والغربي، وحصل بعضها على جوائز عالمية.
جدار عازل
في الروائي الطويل "عمر" الصادر عام 2013، يصوّب المخرج هاني أبو أسعد، كاميرته نحو المأزق الحياتي الذي يعيشه الفلسطينيون بسبب وجود الجدار العازل الذي أقامه الاحتلال في منتصف الضفة الغربية، عام 2002، لمنع الفلسطينيين من التواصل، وتعزيز التفرّق الفلسطيني الاجتماعي والثقافي، وكذلك بهدف الحماية الأمنية.
هنا الفيلم قدّم اختراقا شعوريا، غاص في تفاصيل المشاعر الإنسانية، عبر التركيز على خذلان الإنسان الفلسطيني ومعاناته جراء فرض الفصل بالجدار العازل، من قبل الاحتلال، وقد اختير ضمن قائمة الترشيحات النهاية لجائزة الأوسكار 2014، لأفضل فيلم أجنبي.
في هذا الفيلم يتمكن عمر (آدم بكري) المحمّل وعياً بأصول قضية شعبه، من تخطي الصعاب، والقفز بشكل متكرّر من فوق الجدار العازل، من أجل الوصول إلى حبيبته، على الجانب الآخر من الجدار.
كما أنه يخوض صراعا مستمرا مع الاحتلال، هو الذي يرى أن الحرية هي الحياة، وما دون ذلك تجربة قاسية مع الألم. أما حبيبته نادية (ليم لوباني)، فهي الرمز الذي يأتي به السيناريو ليدلل على الوطن، فالإنسان دوما ينجذب نحو فكرة أمانه، والأمان لدى عمر، هو تحدي الصعاب من أجل نيل حبيبته، نيل فلسطين الحرة.
قدّم فيلم "عمر" تجربة سينمائية تتخطى الصوت الاعتيادي، مصوّرا الحياة الرديئة التي يحياها الفلسطيني في يومياته، محاولا طرح الأفكار المتناقضة حول مدى قدرة الفلسطيني على الصمود في ظل واقع كهذا.
يأتي الفيلم بصورة الواقع الفلسطيني المتشرذم، ملمحا إلى شكل الحياة في ظلّ الانقسام الفلسطيني السياسي منذ عام 2007، فالصورة مشقوقة في المنتصف، والكادر يقدم المأساة متكاملة، عبر الصعوبة المهولة التي يواجهها عمر للوصول إلى حبيبته، على الرغم من أنها تحيا على الأرض نفسها، لكن العائق دوما، يقف في المنتصف، إنه الجدار العازل.
يناقش أبو أسعد مساحة الاحتمال التي يحملها الفلسطيني الثوري في مواجهة الاحتلال، خاصة أن عمر خضع لتجربة قاسية من الاعتقال والتعذيب، من أجل الإخضاع والتعاون مع السلطات الأمنية. هنا يطرق الفيلم مسألة اجتماعية، تمسّ التكوين الاجتماعي الذي يصاب بالشرخ نتيجة وجود من يقبل بأن يكون رصاصة ضد شعبه.
وقد كان لأبو أسعد تجارب أخرى، منها فيلم "يا طير الطاير" المنتج عام 2015، جسّد خلاله معاناة الفلسطينيين في التنقل عبر الحواجز العسكرية، وكذلك منعهم من السفر والتنقل داخل فلسطين وخارجها.
غزة مونامور
في فيلم "غزة مونامور" تظهر مساحة مغايرة للعمل في السينما الفلسطينية، إذ تقع الأحداث في قطاع غزة، وهنا الأمر يحمل خصوصية في مسار القضية الفلسطينية، فغزة جزء صغير من العالم، يخضع للحصار من قبل الاحتلال، منذ عام 2007.
ينجح الفيلم الذي أخرجه الأخوان عرب وطرزان ناصر، في نقل صورة المخيم الفلسطيني المهترئ، الذي يحيا فيه الفلسطينيون في ظروف شديدة القسوة، ويرفضون تغيير صورته، فقط لأنه يحمل سيرة جرم الاحتلال في تغريب الفلسطينيين عن أرضهم التاريخية، وقد نال ترشيحات لجائزة مهرجان "سيزار" السينمائي الفرنسي.
كما أعطى الأخوان ناصر صورة حية عن الواقع الذي يحياه الفلسطينيون في قطاع غزة، من التعرض للتهديد المستمر، من خلال القصف على الأحياء السّكنية.
الفيلم يذهب إلى تقديم الواقع العبثي الذي يحياه الإنسان في غزة، مبينا بين السطور القمع الذي يخضع له الإنسان الغزّي، في ظل حكم حركة "حماس" للقطاع منذ عام 2007، كما يبيّن استهتار السلطات الحاكمة بالمقدرات الفلسطينية الثقافية. فيجد الصياد عيسى، الستيني، تمثال "أبوللو" خلال رحلة صيد بحرية، ويخفيه، عن عين الجميع قبل اكتشاف أمره، وملاحقة السلطة في غزة له. ويعيش الصياد قصة حب من طرف واحد، لسنوات طويلة، لسيدة أرملة من المخيم نفسه، ويتقدّم لخطبتها أخيرا.
رفض مستمر
أما المخرج أمين نايفة فيصوّر شكلا آخر من أشكال النضال الفلسطيني من أجل الحياة والحرية، عبر فيلم "200 متر" المنتج عام 2021. يغوص في تفاصيل المشاعر الإنسانية تجاه الاحتلال، وفكرة الرفض المستمر له، وتكبّد صنوف المعاناة في سبيل ذلك.
فيكون على مصطفى (علي سليمان) دفع ثمن باهظ، مقابل رفضه إصدار الهوية الزرقاء (الهوية الإسرائيلية)، وإصراره على حمل الهوية الفلسطينية، وهذا ما حرمه العيش مع أبنائه لوقت طويل، فكان الجدار العازل عائقا بينه وبين أسرته، مما يضطره للسفر متسللا لساعات طويلة، لتخطي الجدار العازل، ودخول أرض الـ 48، الأرض المحتلة، حتى لا يحمل الهوية الإسرائيلية.
في الفيلم ومضات إنسانية مؤثّرة، تحمل معنى التشرذم الاجتماعي الفلسطيني، القسري، في ظل حواجز الاحتلال وجدرانه. فيكون على مصطفى الإقامة في غرفة على حدود الجدار، تبعد مئة متر عنه، وهي المسافة نفسها التي تبعد بيت أسرته وأطفاله عن الجدار من الجهة المقابلة، ويكون ضوء الكشّاف طريقة التواصل بين العائلة قبل النوم، بحيث لا يستطيع الجدار الإسمنتي العنيد، منع الطفل من قول "تصبح على خير" لأبيه، بالصوت عبر الهاتف النقال والصورة البعيدة من خلاف الجدار، والنور الذي يجسّد الإحساس في المشهد.
كما يقدم المخرج نايفة مشاهد للمعاناة الحياتية، عبر نقل مأساة الفرد الفلسطيني في التنقل بين الطُرق المحاذية للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، كاشفا عما يتكبّده الإنسان الفلسطيني خلال خوضه يومياته الشاقة تحت الاحتلال.
مسح الغبار عن عين الكاميرا
تقدم المخرجة الأردنية، ذات الجذور الفلسطينية، دارين سلّام، صورة بانورامية للمأساة الفلسطينية مع النكبة المستمرة، عبر فيلم "فرحة" المنتج عام 2021، الذي عرضته منصة "نتفليكس"، وأثار ردود أفعال غاضبة من الإعلام الإسرئيلي.
يحكي الفيلم قصة النكبة الفلسطينية، بعين الطفلة فرحة (كرم الطاهر)، إذ والدها المختار كامل مسجون في غرفة مخزن الطعام، داخل منزله، أثناء خروجه لمقاومة الاحتلال، خلال دهمه قرية الطنطورة عام 1948.
ظهرت خلال هذا العقد الزمني الأخير، العديد من الأفلام الفلسطينية المعتمدة على السيناريو الرمزي الإيحائي، من خلال تجديد أسلوب السرد، وتجديد المخرجين لأدواتهم
من ذلك السجن المعتم، تتمكن فرحة من نقل القصة الفلسطينية، عبر شقوق الباب الخشبي للغرفة، إذ راقبت خلالها أفعال جنود الاحتلال، وكأن عينيها كاميرا مخبأة، لتكون شاهدة على الانتهاك الإسرائيلي لإنسانية الفلسطينيين، عبر الإعدام بدم بارد لعائلات بأكملها، وتعذيب المواطنين، وقتل الرُّضّع.
تمثّل شخصية أبو محمد (مجد عيد) صوت الأمل في الفيلم، فهو الوحيد الذي التفت الى فرحة وحاول إنقاذها، لكن الاحتلال كان سباقا في اعتقاله، والتنكيل به وبعائلته، قبل إعدامهم جميعا، عدا الطفل الوليد، الذي أهدرت حياته بطريقة أكثر قسوة، إذ تركه جنود الاحتلال للجوع والبرد، والحشرات، ليتعفّن جسده في العراء.
هنا الفيلم يحمل رمزية العين الشاهدة على الحدث، الكاميرا التي يحاول من خلالها الفلسطيني نقل قصته الى العالم والأجيال المقبلة، للحفاظ على الحق في الأرض والحرية. فالكثير من الصحافيين الفلسطينيين أعدمهم الاحتلال الإسرائيلي، وكانت آخرهم الصحافية شيرين أبو عاقلة، لأن الاحتلال يعلم أن هذه العين تفضح تجاوزاته في حق الفلسطينيين.
كما أراد الفيلم أن ينقل من خلال "فرحة" فكرة الأرض، ففرحة ليست سوى فلسطين التاريخية، التي تراقب وتراكم الأحداث وتنقلها لتشهد على القصة التي يعيشها الفلسطيني خلال ما يزيد على سبعة عقود.
كما يستبطن الفيلم فكرة الذاكرة النقية، فعلى الرغم من التغيرات في الظروف والمعطيات السياسية في الواقع الفلسطيني، إلا أن الوجدان الفلسطيني يبقى متعلقا بأرض فلسطين، وكأن كل ما يحتاجه هو مسح الغبار عن عين الكاميرا.
حبُّ الأرض والإنسان
أما فيلم "علم" المنتج عام 2022، فيقدم صياغة مجددة للفكر الفلسطيني النضالي عبر الشباب، فاحصا مشاعرهم نحو الحياة والاحتلال والأرض، إذ ينقل فكرة الصمود من منطقتها التقليدية القائمة على الشدّ والجذب والنزاع القائم على تبادل الضربات، إلى صراع عقلي فكري، يجسّد الوجود الفلسطيني على كامل الأرض، عبر محو رموز الاحتلال، وإبدالها برموز فلسطينية.
قصة الفيلم مرتكزة على الحب، حب الأرض والجذور، صانعة من ذلك المزيج صورة فلسطينية تنبض بالحياة، وهي بمثابة حيّز جديد تطأه السينما الفلسطينية. وقد نال الفيلم جائزة الهرم الذهبي، 2023، في مهرجان القاهرة السينمائي.
تتغلغل الحالة السينمائية الموحية داخل الفيلم، من خلال التلميحات والرمزية القائمة على ما يجتمع عليه الفتاة والفتى، وربط الحب بالوطن، والتوجه نحو النظرة المعاصرة لمعنى الأرض والوطن لدى الشباب الفلسطيني. فالفيلم يحمل رؤية واقعية للشباب الفلسطيني، مفادها أن الحياة اليومية يجب أن تستمر في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي يعيشها الفلسطينيون، وبالإضافة إلى طرح هذه الفكرة، فإن اقترانها بالوطن والأرض، يجسد رفض فكرة "يموت الآباء، وينسى الأبناء" التي نادت بها رئيسة الحكومة الإسرائيلية السابقة غولدا مائير.
من جانب المعالجة الفنية، فإن الفيلم الذي يؤدّي الأدوار فيه محمود بكري، وسيرين خاص، وصالح بكري، ومحمد كراكي، وأحمد زغموري، ومحمد عبد الرحمن، يعتمد في طرحه على الروح الشبابية. أما الرموز التي عمد إليها فراس خوري كاتب الفيلم ومخرجه، فكانت ترمي إلى فهم متجدّد للقضية الفلسطينية، والإضاءة على الصراع الثقافي الممتد بين الاحتلال والمحتل، محاولا القول بأن أي حياة هي حياة خربة، لا قيمة لها، دون إرجاعها الى المعنى والعمق.
والفيلم يطرح أسلوبية مختلفة في الحكي عن القضية الفلسطينية، فبدلا من استمرار الندْب على النكبة، ينقل أفكار الشباب وصراعتهم اليومية مع صعوبات الحياة في ظلّ الاحتلال، لكنه يطرح عصفا ذهنيا، لربما غير محكي، أحيانا، ويبقي السؤال معلقّا: كيف التحرّر من الاحتلال؟