كاد الأدب الروائي في القرن العشرين أن يكون مفرطا في العقلانية، لولا استخدام الروائيين الأسطورة والخرافات والقصص الموروثة، وكذلك الشعراء في قصائدهم، والقاصين في قصصهم. ففي عصر اتسم بالنزعة المادية، وقرن عانى من حربين عالميتين، أتى أدباء يتعاطفون من جديد مع الخيال الأسطوري، ويُدخلونه في سردهم، كما أخذ التحليل النفسي يتطور في السرد، وحتى المنحى التأويلي للظواهر، لتتغذى الرواية من الجزء اللا عقلاني في تاريخ الإنسان المكتوب بالتعاطف مع عالم الأساطير والموروثات الحيّة، ولتنتج سيناريوهات مستمدة من الخيال الرومانسي تعمل على التوازن بين عالم من الحروب والقتل والسياسات الهادمة وعالم يُفضّل الأدب الإنساني، وكأن الروائيين شرعوا في بناء عوالم أخرى من أجل إنقاذ العالم المحبط.
نجد بعض أكثر الأمثلة وضوحا في الرواية الفرنسية والفرنكوفونية التي وفدت فيها الأسطورة وبقوة منذ خمسينات القرن الفائت، فكل من قرأ أعمال كلود لويس كومبيه، وهنري باوتشاو، وسيلفي جيرمان، وبيار جان جوف، يجد الاستخدامات المختلفة لحكايات التراث، التي أمتعت القراء وكأنهم أدركوا ما في تلك الحكايات الموروثة من سحر ومغزى وصور جديدة آسرة، خاصة أن الروائيين استخدموا الموروث بشكل مغاير قليلا، مطوّرين إياه لأبعاد جديدة، فأصبح اكتشافا يتجدّد للأسطورة القديمة وحكايات أيام زمان ومكانتها الوظيفية والتكميلية في المجتمع، وأصبحت الرواية مختبرا لمدى استيعابهم وانسجامهم مع الأصيل، وكيف حافظ هذا التليد على استيعاب التناقض في المجتمعات الإنسانية.
ولأن الرواية أصبحت الملهمة للأوساط الاجتماعية، وأصبحت تدخل في أحوال الناس من خلال الموروث القصصي ودوره في فهم الأسلوب الذي يتصرف فيه شخص ما بطريقة معينة، أصبحت المجتمعات الأخرى تبحث عن موروثاتها القصصية المتداولة تلك التي لا مصدر لها، فهي متداولة شفهيا منذ القدم، ليصبح الموروث الأدبي متاحا للأدباء، بوصفه ملك الجميع، وبالتالي يعوّض الفقر المتخيّل، ويساعد في فهم العالم الحديث.
يخطئ بعض مدّعي القراءة، إذ يعتبرون أن توظيف الموروث القصصي سرقة، وكأنهم يجهلون أنه لا يمكن أن تُنسب الحكاية الموروثة أو الأسطورة أو الخرافة إلى أحد
هذا ما نجده في الدراسات الغربية حول هذا النوع من الروايات، المؤكدة للخيال الأدبي الغني بالموروثات القصصية، فهو في حد ذاته اكتشاف لغوي، فضلا عن البنية النصية التي تستقبل هذا الإبداع ليصبح منبعا ومصبا معا، فحتى من يعتبر هذه النصوص إعادة كتابة، عليه أن يفهم أن الرواية إذاً قد تحولت إلى تأويل لغوي.
الأمر لا يقتصر على الأدباء، إذ نجد الأمر جليا عند الرسامين التشكيليين، وخصوصا السورياليين منهم، الذين يأملون على الدوام من توظيف الموروث إلى تنشيط فكري غير عقلاني، ومنفتح إلى حد كبير مع التناقض، وإلى تعدد المعاني، لتصبح الأسطورة والخرافة والقصص الشعبية بمثابة لعبة تحويلية. دون أن ننسى الألحان الموسيقية المستمدّة من خيال القص في "ألف ليلة وليلة"، إلى السينما، والمسرح، وسوى ذلك من فنون.
يخطئ بعض مدّعي القراءة، إذ يعتبرون أن توظيف الموروث القصصي سرقة، وكأنهم يجهلون أنه لا يمكن أن تُنسب الحكاية الموروثة أو الأسطورة أو الخرافة الى أحد. وفي تراثنا العربي والشرقي الكثير من هذه القصص المتوارثة، على الرغم من إهمال الرواة العرب بعد الإسلام وفي الفترات الأولى تحديدا، تدوين هذا الموروث، وكل ما ليس له علاقة بالواقع. مع ذلك فإن القصص القرآنية نفسها هي بمثابة قصص تحمل رسائل ودروسا. كما لا تزال حكايات "ألف ليلة وليلة" الزاخرة بالجن والعفاريت تتردّد على مسامعنا إلى اليوم، ويتكئ عليها كل كاتب ذي خيال واسع ويمتلك القدرة على استلهامها وفق يومه، وكذلك مثل كل شاعر عميق تليد، استطاع يوما أن يتخذ من العنقاء والغول صرحا من قول في قصائده.