وفقا لهذا الاتفاق المعلن مع المتلقي، يخوض بيوتنر مغامرة شيّقة ومتعمّقة في مناطق عدة حول العالم يكثر فيها المعمّرون، اصطلح على تسميتها بـ"المناطق الزرقاء"، وهو مصطلح صاغه للمرة الأولى، منذ نحو عقدين، عالم الأوبئة الإيطالي جياني بيس، والباحث البلجيكي في علم السكان مايكل بولين، للإشارة إلى المناطق التي يعيش سكانها أعمارا أطول من المعتاد.
الحبر الأزرق
وكان العالمان قد اكتشفا في مقاطعة نورو بجزيرة سردينيا الايطالية أن نسبة عالية من الأشخاص المعمرين يعيشون في العديد من القرى الجبلية التابعة لهذه المقاطعة، وبعد تحديدهم منطقة تجمع هذه القرى قاما بتمييزها على الخريطة بنقاط باستخدام الحبر الزرق لتنتج من ذلك بقعة زرقاء على الخريطة سميت بـ"المنطقة الزرقاء"، لتمييزها عن سواها من المناطق، وسرعان ما شاع المصطلح في كتابات دان بيوتنر، وتبنته كذلك منظمة "ناشيونال جيوغرافيك" (تأسست العام 1888) في مطبوعاتها المختلفة وأفلامها.
الآن، هناك خمس "مناطق زرقاء" في العالم، هي إضافة إلى سردينيا الإيطالية، جزيرة أوكيناوا اليابانية، وجزيرة إيكاريا اليونانية في شمال شرق بحر إيجة، وشبه جزيرة نيكويا، في كوستاريكا بأميركا الوسطى، ومدينة لوما ليندا الأميركية في ولاية كاليفورنيا.
هذه المناطق الخمس المتباعدة جغرافيا، هي محور هذه السلسلة الوثائقية، التي يزورها بيوتنر، حيث يقوده فضوله إلى "التلصص" على يوميات سكانها، ويتشارك معهم أنشطتهم ونزهاتهم وجلساتهم، ويمضي معهم نحو الحقول والدروب والمنحدرات والشواطئ، ويدخل إلى المطابخ ليتعرّف إلى محتوياتها، ويخوض مع المعمّرين أحاديث لا تخلو من الطرافة والخفة، لينتزع، في غضون ذلك، أجوبة عفوية تعينه على كشف بعض أسرار وصولهم الى سن المئة وهم في صحة جيدة.
يحرص بيوتنر خلال زياراته على الابتعاد عن الرسميات، إذ يظهر فردا من أفراد عائلات هؤلاء المعمّرين الباسمين دوما والمفعمين بالحيوية والنشاط، والذين يسترسلون في أحاديث ودّية تعكس بساطة الحياة الطويلة التي أمضوها في مشاغل يومية، ولا يزالون يواظبون على إنجازها دون تأفّف، فيما ترصد الكاميرا، خلال ذلك، سحر الأمكنة وبهاء الطبيعة راسمة "مشهدية بصرية" حافلة بكل عناصر الجمال، لا نملّ من مشاهدتها في تلك البقاع الموزعة على جغرافيا الكرة الارضية من الأميركيتين مرورا بالمتوسط وصولا إلى الارخبيل الياباني البعيد.
وعلى الرغم من أن هذه البيئات، التي منحت سكانها "العمر المديد"، متباينة في تضاريسها ومناخها وخصوصيتها الجغرافية، من القرى الجبلية إلى زرقة الشواطئ في بعض الأمكنة وصولا إلى "الحاضرة الحداثية" مثل مدينة لوما ليندا في الولايات المتحدة، إلا أن هذه "المناطق الزرقاء" تشترك في كونها مناطق مشمسة وجيدة التهوية، وبعيدة عن التلوث، فضلا عن انتشار اللون الأخضر في كل بقعة، فتبدو تلك المناطق منتجعات مفتوحة في الهواء الطلق، وهو ما يعيد إلى الاذهان مفهوم "الاستشفاء بالطبيعة"، أحد أنواع الطب البديل الذي ظهرت أبحاث كثيرة في شأنه تتحدث عن مزاياه.
النظام الغذائي
تتميز "المناطق الزرقاء" بنظم غذائية صحية تعتمد على النباتات والخضروات والبقوليات والفاكهة والأطعمة الغنية بالألياف والكربوهيدرات الجيدة، وتقليل اللحوم، مع غياب تام للأطعمة المصنعة والمعلبة والوجبات الجاهزة، بل أن معظم ما يتناوله سكان تلك المناطق هو مما يزرعونه بأنفسهم، ولوحظ أن أكثر سكان هذه المناطق يأكلون باعتدال، إذ يتبع كبار السن في أوكيناوا، على سبيل المثل، حمية قائمة على عدم الأكل الى حد الإشباع والتخمة، وهو ما يعني استهلاك سعرات حرارية أقل، إذ تقول الدراسات الطبية "إن تقييد السعرات الحرارية يساهم في الحد من أخطار حدوث طفرات وراثية وتلف الحمض النووي، الذي قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان".
وإذا كان النظام الغذاء الصحي قد غدا من البديهيات، فلا تكاد تخلو دراسة عن أسرار تأخير الشيخوخة من الإشارة الى أهمية هذا النظام، فإن أسرار المناطق الزرقاء في ما يتعلق بالعمر الطويل، لا يمكن أن تقتصر على مسألة النظام الصحي، بل ثمة عوامل أكثر أهمية تمضي السلسلة في كشفها.
الرياضة بوصفها واجبا يوميا
لا تمارس الرياضة في المناطق الزرقاء وفقا لبرامج ومواعيد محدّدة في الصالات المغلقة، ولا تقام وفقا لقواعد يوصي بها المختصون في هذه المسألة، فرياضة سكان المناطق الزرقاء تتجلّى في تنقلاتهم ومشاغلهم اليومية، من أعمال البستنة وسقاية ورود ونباتات الحديقة، ورعي المواشي في السفوح، كما هي الحال في القرى الجبلية بسردينيا، وتحضير الطعام دون الاستعانة بأجهزة كهربائية مثلما يحدث في الجزيرة اليونانية، والقيام بحرف يدوية وأعمال تطوعية تتطلب الحركة، والذهاب سيرا أو على الدراجة الهوائية إلى الوظيفة أو للتسوق... هذه الواجبات اليومية هي التي توفر لسكان تلك المناطق "فسحة رياضية" تتيح لهم الحفاظ على لياقتهم البدنية، من دون تخطيط مسبق.
العامل النفسي والجانب الروحاني
لا مجال للتوتر والضغوط في مجتمعات المناطق الزرقاء، بل ثمة نوع من التوازن النفسي تفرضه طبيعة الحياة البسيطة والمتقشفة، والعامرة، في الآن ذاته، بـالهواء والضوء، فلا أحد ثريّاً بين سكان المناطق الزرقاء ولا يملكون أرصدة في البنوك، ولا يخشون على أية استثمارات أو مشاريع تجارية قد تتعرّض للإفلاس، فما يملكونه هو رصيد معنوي واسع من الترابط الاجتماعي والأسري ورعاية المسنين، يساهم في الحد من آثار الضغوط النفسية، كما أن هذه البيئات النائية عن صخب الحياة المعاصرة، تشجّع أفرادها على عقد صداقات وقضاء الأوقات الممتعة معا، بأبسط الامكانات.
إلى جانب العامل النفسي المهم في مسألة طول العمر، ثمة كذلك جانب آخر مرتبط بسابقه، هو الجانب الروحاني والديني الذي تركّز عليه هذه السلسلة، بوصفه من الركائز الأساسية التي تساهم في إطالة الأعمار، ذلك أن الانتماء الديني يمنح بدوره صفاء ذهنيا وروحيا ونفسيا، ويقوي الروابط الاجتماعية.