تستذكر الطبيبة حادثة كانت على وشك عدم الاكتشاف، تضيف: "انتابني الشك حيال حالة وفاة لطفل لا يتجاوز الست سنوات، زعم والداه أنه وقع عن السلالم، لكن بعد فحصي الدقيق وخبرتي الواسعة وحدسي المهني تبين أنه تعرض للاضطهاد والضرب على رأسه أولا، ثم دفع بقوة لإبعاد الشبهات، مما أدى إلى وفاته".
لقاء مع جثّة
في عمر السابعة والعشرين، حدث اللقاء الأول بين الطبيبة رؤى صارم والجثة، لم يكن لقاء مخيفا بقدر ما كان فضوليا، إذ أثارت مادة التشريح فضولها، حين كانت طالبة على مقاعد الدراسة في جامعة تشرين بمدينة اللاذقية تنهل باندهاش من علم أستاذها الذي أثنى على توازنها العقلي وقدرتها على النظرة الفاحصة الصائبة ونزوعها إلى التحليل العميق، لتنال أعلى درجة علمية بين زملائها وزميلاتها، مما دفعها إلى دخول هذا الاختصاص النادر، تقول صارم (51 عاما) للمجلة: "زاد من إصراري على اختيار هذا المجال انعدام الرغبة العامة بالعمل فيه، وشعوري بضرورة إحيائه ونفخ الروح فيه، فالتشريح فعل في غاية الدقة يستدعي الملاحظة والصبر".
أدوار جندرية
يشهد الطب الشرعي في سوريا نقصا مستفحلا في أعداد النساء اللواتي لا يتجاوز عددهن أصابع اليد الواحدة، على الرغم من قدراتهن التشريحية العظيمة والتشخيص الدقيق. هذا التمثيل الضئيل للمكوّن الأنثوي يفتح باب التساؤلات حول مستقبل هذه المهنة، وقدرتها على استقطاب جيل جديد، لا سيما في ظل عزوف طلاب الطب عن الالتحاق بفرع "طب الأموات" حسبما يصفه البعض.
على الرغم من عدم شيوع التمييز الجندري في المهن الطبية في سوريا، هناك فجوة جندرية في تمثيل نسبة الطبيبات الشرعيّات، يقول المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا الدكتور زاهر حجو لـ"المجلة" إن عدد الإناث في الطب البشري الشرعي هو 3 طبيبات فقط يقمن بفعل التشريح، بينما هناك 12 طبيبة أسنان شرعي مقابل 37 من الأطباء الذكور، بعدما كان العدد قبل اندلاع الحرب قرابة 200 طبيب وطبيبة، وذلك بسبب هجرة الكوادر الطبية بحثا عن فرص عمل أفضل، بالإضافة إلى الأجور المتدنية، مما يفسّر عدم انخراط الجيل الجديد في هذا الاختصاص".
وعلى الرغم من ضآلة عدد الإناث، فقد استطعن تبوّؤ مناصب قيادية في الوسط الطبي، إذ تترأس جدع هيئة الطب الشرعي في محافظة اللاذقية. توضح أسباب عزوف الكثيرات عن ارتياد اختصاص التشريح وقلة أعداد الإناث: "التشريح عمل شاق جدا يتطلب جهدا عضليا وفكريا واستعدادا نفسيا لمشاهدة أبشع المناظر البشرية ولقاء أكثر الحالات الإنسانية إيلاما، لذلك لا تستهوي هذه المهنة النساء، إضافة إلى المردود المادي الشحيح الذي لا ينصف جهدنا، فأجرة الكشف عن الجثة 250 ليرة سورية، كما نتكبّد نفقات التنقلات الميدانية على حسابنا الشخصي".
تحدّيات
لم يكن اختيار الطب الشرعي في العشرينات من عمرها، قرارا صعبا بالنسبة إلى رؤى صارم التي تتمتّع بشخصية قوية في كنف أسرة منحتها الثقة والحرية في اتخاذ القرارات وتحمّل المسؤولية، لكنّ هذا لم يعفها من مواجهة صعوبات جمّة تتعلّق بإثبات الذات الأنثوية في ميدان تحكمه العقلية الذكورية المهيمنة وثقافة الانحياز الى الأحكام التي يطلقها الرجل. تقول: "في بداية رحلة عملي واجهت نظرات تشكيك في كفاءتي، لا سيما أن الفكرة النمطية عن النساء أنهن انفعاليات وعاطفيات، وقد كافحت لتغيير النظرة النمطية الجمعية عبر التسلح بالحجج والبراهين العلمية".
من جهة أخرى، لا تنكر الطبيبة محاولات بعضهم في مدينتها اللاذقية الضغط عليها من أجل تغيير مسار التقرير الشرعي، تقول: "يعرض عليّ بعضهم الرشى لتحوير معلومات الضرر الجسدي، كما يلجأ البعض إلى الوساطات وأساليب الضغط، لكني أنحاز إلى ضميري العلمي وأزداد إصرارا عندما أعلم أن جَرَّة قلم مني قادرة على تحرير بريء من الشنق".