تصعب الإحاطة بأوضاع وأحوال السوريين في ألمانيا. فعددهم تجاوز اليوم مليون نسمة، موزعين أو وُزِّعوا على مناطق (ولايات) ومدن وبلدات ألمانية كثيرة، بينها مسافات شاسعة. وتشير تقارير وتحقيقات إلى أنهم أوسع جاليات اللاجئين والمهاجرين انتشارا، ليس في ألمانيا وحدها، بل في أوروبا كلها. وشبكات اتصالهم وتواصلهم أوروبيا هي الأقوى نشاطا وحيوية بين جاليات الشرق الأوسط المهاجرة والهاربة من بلدانها. وقد يكون هذان النشاط والحيوية ناجمين عن جدّة لجوئهم الجماعي المليوني في مدة زمنية وجيزة، وربما يهدآن ويضعفان أو يتخذان شكلا جديدا بعد حين، عندما تميل حياتهم في ألمانيا إلى "الاستقرار" والتبلور، وتتبلور صلتهم بماضيهم التعس والبائس في سوريا المدمرة، المتشظية أشلاء والمحتلة. والأرجح أنها كانت محتلة احتلالا أمنيا داخليا، وعاشوا فيهاعقودا مكتومين كأنهم في سجن كبير، قبل أن يتجرأوا وبنشدوا في سنة 2011:
"هاي هاي ياسجاني
هاي هاي ياعتم الزنزاني
عتمك رايح ظلمك رايح
نسمة بكرا ما بتنساني"
وإلى تزايد أعدادهم في ألمانيا وسواها من الديار الأوروبية، من طريق الولادات وقانون "لمّ شمل" الأزواج والأبناء، لا يزال البحر المتوسط والبر البلقاني طريقي جلجلة السوريين وسواهم الفارين من بلاد الحروب والقتل والفقر والجفاف والتصحّر، ومن شتى أشكال التمييز والعنصرية التي يتعرض لها السوريون في لبنان وتركيا، فتستمر جلجلتهم للوصول إلى برّ "الأمان" الأوروبي والألماني. وهذا على الرغم من أن أوروبا كلها تنام وتصحو كل يوم على قلق وخوف وتحولات سياسية غير مسبوقة، في طليعتها توسّع التيارات والأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة وشبه العنصرية الناقمة على المهاجرين واللاجئين إليها بعد تكاثف موجاتهم في السنوات القليلة الأخيرة، وتواصلها اليومي، لاسيما السورية التي صارت ألمانيا وجهتها الأولى منذ العام 2015.
ومنذ هذا التاريخ يتزايد عدد السوريين الذين حازوا الجنسية الألمانية، وصاروا يجيدون نسبيا وبتفاوت اللغة الألمانية، وانخرط شطر كبير منهم في سوق الأعمال، وأنشأ لحياته مسارا ومصيرا جديدين. فلم تعد تنطبق على هذا الشطر صفة اللاجئين، لأنهم يقتربون من "التوطين" على الرغم من عدم تبلوره بعد، ومن التباسات "هويتهم" الجديدة و"انتماءاتهم" وذاكرتهم.
سوابق الهجرة السورية
الأبحاث والدراسات التي تتناول اللجوء السوري الكبير في ألمانيا، غالبا ما تقارنه بما سبقه إليها من هجرات غير أوروبية. وفي طليعتها هجرة العمالة التركية والكردية منذ ستينات القرن العشرين. ويليها اللجوء من لبنان الحروب الأهلية - الإقليمية (لبنانيون شيعة غالبا، وفلسطينيون وأكراد) ما بين النصف الثاني من الثمانينات ومطلع الألفية الثالثة. وعلى الرغم من شيوع لازمة ألمانية متكررة تقول: "ألمانيا لم تكن بلد/دولة هجرة ولجوء" طوال تلك العقود، اتسعت فيها الهجرات إليها وكوّن مهاجروها ولاجئوها جاليات منكفئة في تجمعات أو متحدات سكنية خاصة، "قومية" (الأتراك والكرد) و"طائفية" (اللبنانيون الشيعة) في مدن ألمانية عدة، وخصوصا في العاصمة برلين. فأنشأوا ما يسمى "مافيات" تهريب وترويج مخدرات وتبييض أموال وجريمة منظمة.
وتهدف المقارنة بين اللجوء السوري المستجد وجاليات المهاجرين الأقدم إلى القول إن الحكومة الألمانية (عهد أنغيلا ميركل) في العشرية الثانية من الألفية الثالثة التي شهدت "الربيع العربي"، استفادت من أخطاء الحكومات السابقة في إدارتها "ملف" الهجرة واللجوء السابقين. وذلك عندما شرعت في الستينات باستقدام أيدٍ عاملة "رخيصة" من تركيا وكردها "المكتومي القومية"، لتقوم بأعمال عضلية مجهدة في ورش وإنشاءات البنية التحتية في ألمانيا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية. واقتصر تنظيم تلك العمالة على عقود محددة الأجل، كي يعود العمال الأتراك والكرد إلى بلادهم فور انتهائها. لكن ما قررته الحكومة الألمانية آنذاك حصل خلافه وعكسه في السبعينات والثمانينات: مكث أولئك العمال في ألمانيا، واستقدموا عائلاتهم، ثم لحقتهم موجات من مواطنيهم، فاتسعت الجاليتان التركية والكردية في ألمانيا، بلا قوانين وإجراءات وبرامج ناظمة للهجرة واللجوء والإقامة والاندماج. وتشير الإحصاءات إلى أن تعداد الجالية التركية في ألمانيا- ومثلها الكردية- يتراوح ما بين 2.5 و4 ملايين نسمة.