أحبّ شارع الرشيد وهو قلب بغداد. ولكن ما معنى أن يُحبّ المرء شارعا في مدينة غادرها منذ ثلاثين سنة ولم يعد متأكدا من موضع خطاه على خرائطها؟
أمضيت الجزء الأكبر من حياتي الواعية وأنا أمشي في ذلك الشارع. مشيت مئات الكيلومترات في محاولة لفهم ثلاثة كيلومترات من العاطفة والجنون والتلذّذ والحنان والنعمة والإناقة والترف، وما كان عليّ أن أطيق كل ذلك الجمال إلا من طريق الألم.
كان الجمال مؤلما بقدر ما كان مشوقا وشهوانيا وشرسا في شارع النهر المتفرّع من شارع الرشيد وهو شارع النساء الذي كنت أعتبره جزءا من وجبة إلهامي الشعري اليومية وأنا أحثّ الخطى من باب المعظم حتى الباب الشرقي مرورا بالجسور الأربعة، الشهداء والأحرار والسنك والجمهورية. وكانت ساحة حافظ القاضي موقعا مهما للتأمل، هناك حيث تقع عوينات آسيا.
كان نظري دائما ضعيفا. هل كان المرء في حاجة إلى النظر وهو يتبع صفير عاطفته في شارع الرشيد؟ يمكنني أن أمشي الآن مغمض العينين فيه. سأصف لكن الوصف يخون مثلما تخون الصور الفوتوغرافية اللوحات. حين رأيت لوحتَي بوتشيلي "الربيع" و"فينوس" في فلورنسا تألّمت كثيرا لأني خنتهما حين جعلت منهما ملهمتين لأحلامي بعدما رأيت صورهما قبل سنوات. لكني نسيت المصوّر الأهلي الذي رأيت في واجهته الزجاجية صورة للشاعر محمد صدقي الزهاوي وهو جالس على كرسي في انتظار قدوم الشاعر الهندي طاغور في مندلي. قدم طاغور من الهند عن طريق إيران. أصف لأرى. كما أني أصف لأتذكر. كل متر من ذلك الشارع هو جنة. غير أن جنته لا تمسك بقدمي المرء إن قرر أن يمضي في سبيله من غير أن يتوقف أمام سلّم فندق "وجنة الشارع" أو حانة "شريف وحداد".