شارع الرشيد... مرثية لثلاثة كيلومترات من العاطفةhttps://www.majalla.com/node/299646/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D8%AF-%D9%85%D8%B1%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%85%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%B7%D9%81%D8%A9
أحبّ شارع الرشيد وهو قلب بغداد. ولكن ما معنى أن يُحبّ المرء شارعا في مدينة غادرها منذ ثلاثين سنة ولم يعد متأكدا من موضع خطاه على خرائطها؟
أمضيت الجزء الأكبر من حياتي الواعية وأنا أمشي في ذلك الشارع. مشيت مئات الكيلومترات في محاولة لفهم ثلاثة كيلومترات من العاطفة والجنون والتلذّذ والحنان والنعمة والإناقة والترف، وما كان عليّ أن أطيق كل ذلك الجمال إلا من طريق الألم.
كان الجمال مؤلما بقدر ما كان مشوقا وشهوانيا وشرسا في شارع النهر المتفرّع من شارع الرشيد وهو شارع النساء الذي كنت أعتبره جزءا من وجبة إلهامي الشعري اليومية وأنا أحثّ الخطى من باب المعظم حتى الباب الشرقي مرورا بالجسور الأربعة، الشهداء والأحرار والسنك والجمهورية. وكانت ساحة حافظ القاضي موقعا مهما للتأمل، هناك حيث تقع عوينات آسيا.
كان نظري دائما ضعيفا. هل كان المرء في حاجة إلى النظر وهو يتبع صفير عاطفته في شارع الرشيد؟ يمكنني أن أمشي الآن مغمض العينين فيه. سأصف لكن الوصف يخون مثلما تخون الصور الفوتوغرافية اللوحات. حين رأيت لوحتَي بوتشيلي "الربيع" و"فينوس" في فلورنسا تألّمت كثيرا لأني خنتهما حين جعلت منهما ملهمتين لأحلامي بعدما رأيت صورهما قبل سنوات. لكني نسيت المصوّر الأهلي الذي رأيت في واجهته الزجاجية صورة للشاعر محمد صدقي الزهاوي وهو جالس على كرسي في انتظار قدوم الشاعر الهندي طاغور في مندلي. قدم طاغور من الهند عن طريق إيران. أصف لأرى. كما أني أصف لأتذكر. كل متر من ذلك الشارع هو جنة. غير أن جنته لا تمسك بقدمي المرء إن قرر أن يمضي في سبيله من غير أن يتوقف أمام سلّم فندق "وجنة الشارع" أو حانة "شريف وحداد".
لا يزال المغول يعبثون بمكتبات بغداد ويدمرون معمارها ويغتالون عاطفتهاويجففون أنهارها. لقد سبقتنا العاصفة وحطمت بجنون كل ما كنا نراه عامرا بالعاطفة
"أنت مجنون يا كمال لكي تبحث عن أثر لك في ذلك الفندق"، قلت لكمال سبتي، الشاعر الذي مات وحيدا في هولندا منذ سنوات. كان قد كتب قصيدة عن سريره في ذلك الفندق. "لكنها قصيدة عن حياة لم نعشها"، قلت له. قال بسخرية "وهل القصائد تُكتب من أجل حياة عيشت؟" الآن وأنا أرى صورة حديثة لشارع الرشيد لا أفكر في حجم الإهانة التي وُجهت إلينا فحسب، بل وأيضا ما يمكن أن يحمله الشارع عنا من أفكار رثة ولئيمة للأجيال المقبلة. لطالما شعرنا بأننا أقل منه. ولم نشعر بالراحة إلا حين قرأنا رواية جبرا ابراهيم حبرا "صيادون في شارع ضيق". لقد هبط جبرا بالشارع من عليائه. صارت فخامته ورفعته ممكنتين لأنهما امتزجتا بالشعر اليومي وهو خبزنا. غير أن كل ذلك لم يزح عن أعمدته غموضها وأسئلتها الملغزة. بمزاج عاشق أسطوري لمس جبرا تلك الأعمدة وأضفى عليها نورا، مستلهما تجربته وهو يسعى إلى إستعارة شيء من روح المدينة التي نظر إليها من خلال عيني لميعة العسكري، حبيبته العراقية التي هي أم ولديه. كل ذلك لم يؤثر في حقيقة أن ما عرفناه عن ذلك الممر الذي تحفّ بأعمدته الملائكة كان أقل بكثير من حقيقته.
صفير أصوات الملائكة
بغداد كلها كانت هناك. ولكن أية بغداد؟ تلك هي بغداد التي تمزج بين كل الأزمنة. في كأس واحدة عصرت طفولتها ومراهقتها وشبابها وكهولتها من أجل أن تبدو سيدة زمانها، كلما التفتت، سقط قناع من أقنعتها من غير أن يظهر وجهها. كان علينا أن نلوذ بسينما روكسي بحثا عن آثار رعاة البقر في الغرب الأميركي هربا من خيالها الذي يستند مثل حارس ليلي الى أحد أعمدة شارع الرشيد. ولكن كل شيء مضى إلى زوال مهين ومذل. بل صار على من يذهب إلى بغداد أن يتحاشى المرور بشارع الرشيد لئلا يشعر أن العراق التاريخي قد انتهى. لا يزال المغول يعبثون بمكتبات بغداد ويدمرون معمارها ويغتالون عاطفتهاويجففون أنهارها. لقد سبقتنا العاصفة وحطمت بجنون كل ما كنا نراه عامرا بالعاطفة. ما الذي تبقى من الحب؟ مرت شاحنات الجنود الغرباء وترك الغزاة آثار أسنانهم على سيقان ممثلات هوليوزد في لافتات سينما علاء الدين وكانت هناك بساطيل مغبرة في واجهة المقهى البرازيلي. ذلك الخدش جمعت صرخته أصوات المصلين في جامع الحيدرخانه وعبأتها في أكياس جاهزة للتصدير. سيتعبني الوصف من غير أن أصل إلى قاع البئر. هناك حيث انزلقت مرآتي. ميتا مع الميتين أنقب قي زاوية من سوق الصفافير عن صفيري الذي دفنته مثل خاتم في انتظار قيامتي التي صارت الملائكة تنسج سجادتها من حرير أشجار التوت القادمة من بعقوبة.
بغداد بين الجد والهزل
في زمن ما، ودعنا موتى سعداء. ولكن لِمَ نتحدث عن الموتى ولا يزال هناك مَن يتأنق كل جمعة ليذهب إلى شارع المتنبي الذي أعيد بناؤه بطريقة زائفة ليكون أشبه بديكورات الأفلام الهندية. إن رغبت في التقاط صورة فاذهب إلى شارع المتنبي. لقطة "سيلفي" تكفي. صنع الشيوعيون هناك جنتهم الخيالية. كذبة تنتهي بها حياة حزب عريق. لا تفكر بألم. عليك أن تؤجل دمعتك. ولكنك على حق حين يتعلق الأمر بتزييف الواقع. لقد صنعوا في شارع المتنبي وهو شارع الكتب المتفرع من شارع الرشيد جنة فولكلورية زائفة. إن شعرت بالحرج فاضحك وسيكون لديّ وقت لبكاء متأنّ. لن تسأل أحدا "إين ذهبت المدينة؟". يحتاج المرء إلى درجة عالية من العته لكي يصدق أن ما يراه صورة عما كان يراه قبل ثلاثين سنة. تلك مشكلتهم وليست مشكلتي. هذه ليست بغداد. كانت هناك مسرحية رائعة بعنوان "بغداد الأزل بين الجد والهزل". أتذكرها كأنها نبوءة وأنا أرى صورة حديثة لشارع الرشيد.
بعد أن كان اسمه جادة خليل باشا صار الاسم عام 1938 شارع الرشيد في محاولة لصنع عنوان لعصر ذهبي جديد انتهى عام 1958 يوم قلبت الأحزاب حياة العراقيين إلى مجزرة
قلب بغداد الذي صار اليوم أشبه بعشوائية لم يتوقف عن النبض منذ عام 1910. وبعد أن كان اسمه جادة خليل باشا صار اسمه عام 1938 شارع الرشيد في محاولة لصنع عنوان لعصر ذهبي جديد انتهى عام 1958 يوم قلبت الأحزاب حياة العراقيين إلى مجزرة بدأت بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم ولم تنته حتى يومنا السعيد هذا.
فبعدما مرّت السيارات الحديثة الفارهة في شارع الرشيد وهي تنقل الجميلات إلى أسواقه التي يقف في مقدّمتها "أورزدي باك" وهي سوق فرنسية، كلما فتحت حسناء بابها امتزجت عطورها الباردة بالهواء الذي يتنفّسه المارة تحوّل الشارع إلى مجال يملأه المتظاهرون بأصوات قسوتهم التي تطالب بالانتقام. لوثت تلك الأصوات أعمدة الشارع بصراخها الوحشي الذي صنع تاريخا مجاورا هو تاريخ الأحزاب. غير أن الحياة كانت أقوى. كل الشعر، كل الموسيقى، كل الأسواق، كل الذهب، كل الجميلات، كل المقاهي الراقية، كل خيال السينما كان هناك. في كل متر من تلك الثلاثة كيلومترات هو نافذة على حياة سيكون مشاهدها أشبه بإعلانات السينما. "هنا جلس بدر شاكر السياب وتبعه حسين مردان"، يقول صاحب المقهى. "هنا غنت أم كلثوم"، يقول أحد قراء المقام. "نامت مس بيل في ذلك الفندق ليلة واحدة"، يقول صاحب محل أسطوانات.
لشارع الرشيد ذاكرة هي ذاكرة بغداد. فلا بغداد من دونه.