يحمل الخبر سمات عالم آخر: روسيا التي طالما زودت كوريا الشمالية بالأسلحة والتي تعتبر من أكبر مصنعي الذخائر والوسائط القتالية في العالم، تسعى للحصول على قذائف لمدفعيتها من بيونغ يانغ للاستخدام في ميادين القتال في أوكرانيا.
لائحة المطالب الروسية التي حملها الشهر الماضي وزير الدفاع سيرغي شويغو إلى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون تبدو متواضعة، بحسب وسائل الإعلام الغربية: قذائف مدفعية، ورصاص أسلحة خفيفة ومتوسطة. وفي المقابل، تبدو سلة التسوق التي أراد كيم ملأها أثناء لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في "المدرج الفضائي الشرقي" أقصى الشرق الروسي، أكثر تقدما وتعقيدا: خبرات في إنتاج الصواريخ البالستية من النوع الذي أطلقت كوريا الشمالية واحدا منها عشية اللقاء، ومساعدات غذائية لتجنب مجاعة جديدة تقول المنظمات الدولية إن شعب "الماريشال كيم" سيخوض غمارها قريبا وفق تقارير المنظمات الدولية.
بيد أن السؤال يبقى: لماذا تطلب روسيا، القوة العسكرية الكبرى وأحد أهم مصدري السلاح في العالم، قذائف مدفعية من نماذج قديمة صممتها هي ويزيد عمرها على نصف قرن، من كوريا الشمالية، في حين أن الحرب الدائرة الآن تعتبر ساحة لاستخدام الأسلحة والوسائط الأكثر تطورا، المسيّرات والأقمار الاصطناعية التي تحدد المواقع، وصولا إلى الصواريخ الذكية والفرط صوتية؟
الجواب مركب يستدعي أولا إلقاء نظرة على طبيعة الحرب في أوكرانيا، فعلى الرغم من دخول المسيرات والقذائف الموجهة مسبقة البرمجة إلى المعركة على نحو لم تشهده أي حرب سابقة، إلا أن المدفعية لم تتخل عن لقبها "كملكة الحرب" بعد. ذلك أن الحقول الزراعية المفتوحة والشاسعة التي يدور القتال عليها في شرق أوكرانيا، تعتبر مثالية لعمل المدفعية التي تنفذ ما يسميه العسكريون "السدود النارية المتحركة" والتي تشارك عادة فيها عشرات البطاريات وتتقدم نيرانها على نحو منسق لتحصد كل ما يقف أمامها. وتفتح بذلك الطريق أمام تقدم المشاة والدبابات بعد أن تكون قد دكت المواقع المحصنة المعادية أو أحالت تجمعات جنود العدو وحشوده إلى أشلاء ممزقة.
الأرقام المتوفرة عن استهلاك الجانبين الروسي والأوكراني لقذائف المدفعية هائلة؛ فالجانب الأوكراني كان يطلق ما بين خمسة وثمانية آلاف قذيفة مدفعية يوميا قبل بدء الهجوم المضاد الواسع في يونيو/حزيران الماضي. وفي المقابل، يطلق الروس الذين تتمتع مدفعيتهم بشهرة لا تضاهى منذ حملة نابليون بونابرت في 1812م، نحو عشرين ألف قذيفة مدفعية يوميا.
هل يعني ذلك أن الجانب الروسي قد بات في وضع ميئوس منه من ناحية توفير الإمدادات العسكرية؟ قد يكون من المبكر التوصل إلى نتائج حاسمة وإصدار أحكام جازمة في الوقت الذي تتغير فيه خرائط القتال بين يوم وآخر
غني عن البيان أن الحديث هنا يجري عن قذائف مدفعية الميدان "الهاوتزر" وليس عن الهاونات الخفيفة. ما يلقي أعباء ضخمة على الصناعات الغربية والروسية في آن واحد، بعدما استنفدت الشهور الماضية من الحرب ما حوته المستودعات منذ أيام الحرب الباردة.
وفي الوقت الذي تمتنع الصين فيه عن تزويد روسيا بالأسلحة والذخائر، على الرغم من التقارير التي تشير إلى إرسال بكين تجهيزات إلكترونية مزدوجة الاستخدام، المدني والعسكري، إلى موسكو لتجهيز صواريخها وغيرها من أسلحتها بها، فإن الحاجة الروسية باتت ماسة للذخائر، كما ونوعا.
ويتعين الانتباه هنا إلى أن الذخائر الكورية ستستخدم ضمن منظومات المدفعية والتوجيه الروسية الحديثة أي إنها ستكون جزءا من آلية القتال الروسية الأكثر تطورا من الكورية الشمالية، بطبيعة الحال. وينطبق التشخيص هذا على ذخائر الأسلحة الخفيفة والمتوسطة التي قد ترسلها بيونغ يانغ إلى جبهات القتال بحيث ستكون موظفة في خدمة الخطط القتالية الروسية ولن تدخل عليها تغييرات نوعية على غرار ما تفعل الأسلحة الغربية مع الخطط الأوكرانية.
من جهة ثانية، لم يكشف بوتين وكيم في التصريحات المقتضبة التي أدليا بها في "المدرج الفضائي الشرقي" عما يزيد على المواقف العامة عن التعاون المشترك وتأييد كيم المطلق "للحرب المقدسة على الإمبريالية" التي تخوضها روسيا في أوكرانيا. على الرغم من ذلك، لا يخفى أن الجانبين يجدان في بعضهما استجابة للحاجة الماسة التي حملتهما على التعاون وفق ما أظهرته زيارة شويغو المفاجئة إلى بيونغ يانغ الشهر الماضي.
لكن هل يعني ذلك أن الجانب الروسي قد بات في وضع ميئوس منه من ناحية توفير الإمدادات العسكرية؟ قد يكون من المبكر التوصل إلى نتائج حاسمة وإصدار أحكام جازمة في الوقت الذي تتغير فيه خرائط القتال بين يوم وآخر.