بيد أن الجهود الأميركية مع القيادة السعودية لم تتوقف، منذ ذلك الحين، بل إن إدارة الرئيس جو بايدن عززت منها، بوضعها على رأس سلم سياساتها في الشرق الأوسط، وفي مركز المباحثات التي جرت، طوال الفترة الماضية، بين أركان تلك الإدارة والقيادة السعودية، بحيث بات ذلك الملف بمثابة حديث يومي في السياسة الإسرائيلية، وفي نقاشات ومقالات الصحف الإسرائيلية، لا سيما بالنظر للأزمة التي تمر بها إسرائيل حاليا، وبالنظر للتوتر الحاصل في علاقتها مع إدارة بايدن.
بين إسرائيل والسعودية
في الواقع، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تعرّف بأنها الأكثر تطرفا في إسرائيل منذ قيامها، تولي أهمية كبيرة، لجذب المملكة إلى دائرة التطبيع معها، باعتبار تلك الخطوة بمثابة ورقة بالغة الأهمية لصالحها، لإضافتها إلى رصيدها في خضم الأزمة التي تشهدها إسرائيل، منذ تشكيل الائتلاف الحكومي، من اليمين القومي والديني، في أواخر العام الماضي، ومع سعيها لإحداث نوع من الانقلاب في النظام السياسي الإسرائيلي، إضافة إلى أن مثل تلك الخطوة قد تذيب الجليد بينها وبين الإدارة الأميركية، بالنظر للتوتر الحاصل بين الطرفين.
أيضا، ثمة سبب آخر، يتعلق بالمكانة المركزية التي تحظى بها المملكة على الصعيدين العربي والإسلامي، وبالنظر إلى أهميتها الدولية، وقوتها الاقتصادية، إذ إنها أصبحت بين "مجموعة العشرين"، الأقوى اقتصاديا في العالم، لجهة الناتج المحلي الإجمالي (1,1 تريليون دولار)، ولجهة قيمة الصادرات (410 مليارات دولار)، للعام 2022، ومع ثروتها النفطية الهائلة، إضافة إلى أنها خامس دولة من حيث الإنفاق العسكري (75 مليار دولار للعام الماضي).
لكن الأمر لم يتوقف على تلك الحقائق فقط؛ إذ وجدت إسرائيل نفسها، هذه المرة، أمام دولة تطرح شروطا للتطبيع، عليها، كما على الولايات المتحدة، التعهد بالقيام بها، وهو تطور لم تعتد عليه في تجارب التطبيع السابقة مع الأنظمة العربية، رغم أن معظم أطراف النظام العربي تبدو في حالة تطبيع صامت، أو واقعي، مع إسرائيل منذ إقامتها (1948)، وإن بأشكال متفاوتة، بخاصة منذ ما بعد حرب يونيو/حزيران 1967، مع الانتقال من الصراع ضد وجود إسرائيل (ولو لفظيا)، إلى الصراع ضد احتلالها أراضٍ عربية، مما يعني الاعتراف بوجودها.
شروط التطبيع
لعل أكثر شيء أثار اهتمام الإسرائيليين في نقاشاتهم أن متطلبات التطبيع مع السعودية، من إسرائيل ومن الولايات المتحدة، هي بمثابة رزمة واحدة، وهي سابقة تختلف عن التجارب التطبيعية المعروفة، بخاصة أن المملكة تمتلك أوراقا عديدة، فعّلتها أو يمكن أن تفعّلها، كما حدث بالنسبة لصدّها المطالب الأميركية بخصوص صادراتها النفطية، ويشمل ذلك تعزيز علاقاتها مع الصين، وموقفها من الحرب الأوكرانية، والصراع الأميركي- الروسي.
وفي رأي المحلل الإسرائيلي ميخائيل هراري، فإن مطالب، أو شروط السعودية تتحدد في الآتي: "من الولايات المتحدة: مظلة دفاع على نمط حلف الناتو، كردع تجاه إيران، ومفاعل نووي مدني، معقول أن يكون تحت رقابة ما من الولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقدرة وصول إلى سلاح أميركي متطور للغاية... وخطوات بناءة في السياق الفلسطيني- الإسرائيلي". ("معاريف"- 11/8/2023).
هذه الشروط، بطابعها الدولي والفلسطيني، تفيد أن إسرائيل، بحكومتها ومعارضتها، لن تستطيع السير في هذا الاتجاه، إذ إن تلبيتها تجعل السعودية بمثابة دولة ذات وضعية خاصة للولايات المتحدة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ما يضر بمكانة إسرائيل وبمصلحتها، لا سيما ما يتعلق بكسر احتكارها للقوة النووية في المنطقة، وهو ما يشكل تهديدا لأمنها القومي الاستراتيجي.
لكن مشكلة حكومة نتنياهو، في تلك الشروط، عدا عن ارتداداتها الإسرائيلية، أنها تأتي في لحظة حرجة داخليا، وفي لحظة توتر بينها وبين الإدارة الأميركية، وأنها تتقاطع مع ما تريده الولايات المتحدة، في عدة مجالات لأنه يتناسب مع مصالحها وأولوياتها وسياساتها، دوليا وإقليميا، وإزاء روسيا والصين وإيران.
ومعنى أن ثمة مصلحة أميركية في التطبيع بين إسرائيل والسعودية، يفترض أن تقوم إسرائيل فيها بدورها، وهو المساهمة فيما يتعلق بإضعاف مكانة الصين في المنطقة، وعزل إيران، والاستثمار في السعودية، سياسيا واقتصاديا في المنطقة وعلى الصعيد الدولي، وذلك بالاستعداد لتلبية اشتراطاته، وضمنها الموضوع الفلسطيني، بهذا القدر أو ذاك، لكن في كل الأحوال مع خطوات لتحسين أوضاع الفلسطينيين، وتجميد أعمال الاستيطان في الضفة، وفي القدس، والامتناع عن أي خطوة تفضي إلى ضم رسمي لمناطق فيها (مثلا المنطقة ج).
على أية حال، وتبعا للتجربة السابقة، فإن إسرائيل ستحاول التملص من أية التزامات صعبة، وهذا حدث سابقا، مثلا، في المفاوضات متعددة الأطراف التي انبثقت عن مؤتمر مدريد، وفي مؤتمرات القمة الشرق أوسطية (مطلع التسعينات)، التي ركزت على محاولة إيجاد طرق للتعاون العربي- الإسرائيلي، في نطاق مشروع "الشرق الأوسط الجديد". كما تكرر ذلك في رفض إسرائيل تقديم الاستحقاقات المطلوبة منها في التسوية مع الفلسطينيين، في العقود الثلاثة الماضية، وفي إطاحتها بخطة خريطة الطريق (2003)، التي طرحها الرئيس الأسبق جورج بوش (الابن)، وطبعا يأتي ضمن ذلك رفضها بصلافة للمبادرة العربية للسلام (2002).