لو أنني احتجت إلى أن أصف التصوير الفوتوغرافي لأناس يعيشون في قلب غابات الأمازون ولا يعرفونه، لقلتُ إنه حبس الزمن في لحظة. إنه وجود يشبه الوجود عند الفيلسوف اليوناني بارمنيدس، وجود ساكن لا حركة فيه، وجود ثابت وأبدي وممتلئ امتلاء كاملا. إنه نقيض الوجود عند هيغل، فالوجود عند فيلسوف شتوتغارت ليس ساكنا بل متحرك لا يتوقف عن الحركة، حتى إنه ليصلح أن نشبهه باللحظة السينمائية المتحركة والوجود الحيّ. هذا باختصار الفرق بين فلسفة الرجلين.
منذ أيام، اكتشفت العائلة وجودا ساكنا لم نكن نعلم بوجوده في أحد ألبومات العائلة، صورة قديمة لي عندما كنت في سن المراهقة. كان هذا عندنا حدثا كبيرا، لأن صاحب الصورة من جيل السعوديين الذين أحرقوا معظم صورهم الفوتوغرافية في أيام "عاصوف الصحوة" استجابة للفتاوى السلفية التي كانت في ما مضى تحرم الصور، بحجة أن المصورين يضاهون خلق الله.
كثير من الإخوة والأصدقاء من غير السعوديين يرون أننا بالغنا في لوم حقبة الصحوة، ربما لأنهم لم يتصوروا السبب الذي يجعل السعوديين يشعرون بمرارة في حلوقهم عندما يأتي ذكر زمن الصحوة والحياة المسروقة عنوة. لقد عشنا أعمارنا في زنزانة، على الرغم من أن تلك الزنزانة كانت مفتوحة الباب طوال الوقت. من تصور هذا الجانب ستخرج أهمية تلك الصورة للعائلة.
كثير من الإخوة والأصدقاء من غير السعوديين يرون أننا بالغنا في لوم حقبة الصحوة، ربما لأنهم لم يتصوروا السبب الذي يجعل السعوديين يشعرون بمرارة في حلوقهم عندما يأتي ذكر زمن الصحوة والحياة المسروقة عنوة
حبس الزمن في لحظة كان إنجازا كبيرا وخطيرا، فكثير من عباقرة الفلاسفة وكل الصوفية بلا استثناء يرون أن الزمن وهم، شيء لا حقيقة له، شيء اخترعه الإنسان ليعرف به مواعيد الحصاد والعبادات. من القديس أوغسطين إلى كانط وهيغل، كلهم يرونه شيئا مصطنعا، يرونه شيئا اعتباريا بالنسبة إلى العقل. لهذا يمكن للبشر أن يتبجحوا بعض الشيء بالقول إنهم أمسكوا بالزمن ولو للحظة، أو أنهم استطاعوا أن يشيّئوه فلا يبقى فكرة مجرّدة، بل يغدو محسوسا وملموسا. لقد كنا هناك في ذلك المكان والزمان، وكأننا نرد على من ينكر حدوث وجودنا الخاص، لسبب ما.
وفي إمكان العروسين – مثلا – أن يقولا: نعم، لقد كنا هناك، في تلك اللحظة، ونعم لقد كنا نشعر بقدر لا يوصف من السعادة، ما عدنا نقدر على أن نشعر به بالطريقة والحميمية والكثافة نفسها. هنا تكون الصورة الفوتوغرافية باعثة على الشجن، لأنها تذكر بقضية أخرى هي قضية سور السعادة. قصة السور، كما سميتها، هي أن الإنسان قد يعيش لفترة من عمره وهو يجلس على سور جنة، يضحك ويعبث، ثم يحدث في لحظة أن يسقط ويرتطم رأسه بالأرض. يتفقد نفسه، فيجد أنه لا يزال بخير، لا كسور ولا رضوضا كبيرة. ربما تحصّل على رضة صغيرة ستختفي بعد فترة لأن الجسد يعالج نفسه باستمرار. وعلى الرغم من أنه تعافى إلا أنه أصبح عاجزا عن تسلق سوره الأول من جديد، مع أنه يمكن أن يتسلق وأن يجلس على أسوار أخرى، لكنها ليست بالارتفاع ذاته ولا بدرجة المؤانسة الكثيفة نفسها. أسوار جيدة ومنخفضة وبهيجة، ستمنحه مقدارا من السعادة، لكنه سيظل أبدا يتسلق ببصره كل يوم سوره القديم الذي لا يدري كيف تسلقه في المرة الأولى، مدركا أنه لن يكون أبدا بتلك السعادة. لكنه يستطيع دائما أن يتيح الفرصة لجسده لكي يداوي نفسه بنفسه..