ذلك الكلام كلّه عن الحداثة والمحدثين والحداثيّة والمستحدثين والحديثين والحدّاثيين والمحداثين والحدوثين، كل ذلك الكلام، أين كان، وأين صار؟ في الذاكرة؟ في المخيّلة؟ في الحلم؟ في المستقبل؟ ربّما في مجاهل المجهول، باعتبار أن الحداثة وصفها البعض بأنّها "مغامرة في المجهول"، تيمّنا بما قاله السورياليّون، ومن جاء بعدهم ومن جاء قبلهم من الدادائيّين.
الجميع تكلّم وأرغى وصرخ وتفلسف ونقد ونظّر وتأمّل، وأعطى وصفات، وطرح حِكَما ومواعظ، وصبّ ذلك كلّه في وجوب أن نكون شعراء حداثة! ومن أجل هذه المهمّة وجوب أن نفجّر اللغة، وننسفها بالديناميت، والمتفجّرات ونرشّها بالد.د.ت كي تكون حديثة، ونكون معها (أو تكون معنا) حديثة، محداثة، حدوثة. ومن أجل هذه المهمّات الصعبة، عاد أرباب الكلام على الحداثة، وكي تكون الحداثة حديثة، "من نقطة الصفر" وربّما إلى نقطة الصفر، إلى الكتب الحديثة، وإلى النظريات الحديثة، وإلى الشعراء الحديثين العالمييّن، وكذلك وبضمائر شعريّة ونقديّة حديثة، إلى النصوص الغربية التي بشّرت بالحداثة، ومارستها، وعلَكَتها، ومجّتها، فمارسوها، وعلكوها، ومجّوها، وكونوا "هديّة" حداثيّة عربيّة، صافية، نقيّة، غير مغشوشة. حسن!لا أحد ضدّ "الانفتاح" ولا "التفتح"، ولا "التأثر"... فعمّموا ونشروا هذه الآراء (وإن مبتسرة) والنصوص وإن مشوّهة، كي يصبح الشاعر العربي حديثا، بكل معنى الكلمة، وتاليا كي يصبح الشعر العربي حديثا بكل معنى الكلمة أيضا، فالشاعر لا ينفصل عن شِعره، وشِعره صورته. والكاملة أيضا. والمتكاملة! حسن!
تعبوا كثيرا من أجل أن يحوّلوا الخلايا الشعريّة من خلايا تراثيّة، أو مخضرمة، إلى خلايا ثوريّة.
الآخرون، (غير الحداثيين) المتشبّثون حتى عظام الأجداد والأسلاف بالتراث، وبالهوية (ما زلنا نبحث عن الهوية حتى الآن!) وبالأصالة، صدّقوا أن الحداثيين هم فعلا حداثيّون. وصدّقوا أن الحداثيين يصدّقون نظرياتهم وشعاراتهم ونصوصهم، صدّقوا أنّها فعلا نظريات حديثة، وقصائد حديثة، بل صدّقوا (وهذا هو الأدهى) أنّ مُطلقي ذلك الكلام، من شعراء ونقّاد هم فعلا أشخاص حديثون. وصدّقوا (وهذا هو الأدهى أيضا) أنّ على الشاعر أن يكون "حديثا" بمعنى أن يحمل متفجّرات وقنابل وينسف التراث، ثم يغزو اللغة، فَيَسْبِيها ومن ثمَّ يغتصبها. ثمّ صدّقوا أنّ على الشاعر، كي يكون حديثا، أن يفجّر التراكيب ويحطّم السياق، ويمزّق نوافذ التعبير، ويدمّر الأسس، والمرتكزات. صدّقوا أوّلا أنّ على الشاعر أن يكون حديثا، ثمّ صدّقوا أنّه باسم الحداثة سيغرب القسمات، ويطمس الهويّة، ويتركهم يتامى. بلا أُمّ ولا أب ولا أخت ولا عشيرة ولا قبيلة ولا أمجاد... ولا ماضٍ.
في خضمّ هذه الويلات والمجازر والملاحم والحروب، كان لا بدّ من عمليات استقطاب تبدأ من الماضي القريب والبعيد، ولا تنتهي عند الحاضر، لتتجاوزه إلى المجهول والمستقبل والآتي
المحدّثون صدّقوا أنفسهم (لفترة) والتراثيّون صدّقوا المحدثين، وحصلت المعركة... ووصلت الاتهامات إلى بني عبس وبني حمدان وبني تغلب وورّطوا طرفة والمتنبّي وأبا نواس... والكتب والنصوص الدنيويّة وغير الدنيويّة بمعاركهم هذه. لمَ لا؟ لقد صارت معركة المصير... والماضي والمستقبل كلّه وأدخلوا حتى المستشفيات والمرضى في المعركة. كأنّ الكلام على ضرورة الجنون والهلوسة، والثبات، والصمود، والتصدّي معارك طاحنة بين هذين الطرفين العنيدين، الشرسين، ومتاريس من كل الألوان والأجناس والترابة والحديد والأسلحة.
بين المحدثين وغير المحدثين وقف المصلحون والوسطاء والمتوسّطون والتوفيقيّون فحملوا شعارات، أنصافها من أهل الحداثة وأنصافها الأخرى من أهل الأصالة والقيم والتراث، وفبركوا نظريات "تلفيقيّة" تقول بأنّه يحق للشاعر أن يكون حديثا، "لكن" شرط أن لا ينسى التذكرة والهويّة ولون عينيه ومشيته العربيّة وصوته ولغته ومخزونه وذاكرته. فمقابل الشعار الحداثي، والشعار غير الحداثي، شعار جديد، ومقابل الوصفة الطبيّة الحداثيّة القويّة بمستقبليّتها ورفضها (قالوا إنّ الشعر يبدأ بالرفض)، ومقابل الوصفة الطبّية الأصليّة القويّة بجذورها الضاربة في التاريخ، وصفة ثالثة حكيمة، لا هي قويّة ولا هي شرسة، ولا هي أيضا ضعيفة.
وصفة متوازنة، يقرّر من خلالها الشاعر أن يكون نصفه قديما ونصفه الآخر حديثا. وقد طوّرت هذه النظريّة من خلال أن يقرّر الشاعر أن يصهر الماضي في الحاضر، ويصهر الحاضر في أتون الماضي، ومن ثمَّ نُعصرن التراث، و"نترثن" الحاضر، وهكذا يستوي الوفاءان. الوفاء للجذور والوفاء للفروع. الوفاء للحضارة الخاصة والخصوصيّة والوفاء للحضارة المعيشة اليوميّة. وفي خضمّ هذه الويلات والمجازر والملاحم والحروب، كان لا بدّ من عمليات استقطاب تبدأ من الماضي القريب والبعيد، ولا تنتهي عند الحاضر، لتتجاوزه إلى المجهول والمستقبل والآتي، ومن خلال ذلك أدخلت فرق السورياليّة بألويتها وفرسانها، بروتون والويار وسوبو، من دون أن تهمل جبهة الدادائيّة، بفارسها تريستان تزارا، ومن دون نسيان السند الأكبر رامبو ومعه لوتريامون، ولا بأس بمالارمه، ولا بأس أيضا بإليوت وسان جون بيرس، أدخل الجميع في المعمعة، وكي تتوازى الأسانيد، أدخلت أيضا فرق الرومنطيقيّة والنيورومنطيقيّة الفرنسيّة منها والألمانيّة والإنكليزيّة، وحتى الأميركيّة، ثمّ، إلى جانب هذه القوى أدخلت كذلك في المعركة الصوفيّة، فـ"تصوفن" الحداثيّون، وجعلوا من النصوص الصوفيّة ومن شعرائها منارة حداثيّة عالية!، ونهبوا ما نهبوا منها، وسرقوا ما سرقوا، وطعّموها بشيء من سان جون بيرس (باعتبار أن حساسيّته الشعريّة شرقيّة، على حدِّ قول بعض الحداثيين)، وبشيء من الأخ رامبو (باعتباره أيضا ظاهرة شرقيّة وربّما عربية في الشعر الفرنسي) ثمّ ولفوا من هذا الخليط نصّا حداثيّا خاصّا بهم، باعتبار أن كل شيء ملك للشاعر الحديث، يختار منه ما يشاء (لنفسه) ويرفض منه ما يرفض، وينسب من شعر الآخرين إلى نفسه ما يحلو له، وينسب من شعر الآخرين إلى الآخرين ما يحلو له أيضا! وبهذه العدّة، والعديد، الأسماء والنصوص، قالوا إنّ الحداثة بدأت الآن ولم يعرفوا أنّها لم تبدأ ولم تنتهِ.