في مثل هذا اليوم، 12 سبتمبر/أيلول 2008، استغل الكاتب ديفيد فوستر والاس خروج زوجته كارين غرين لقضاء أمر ما، وعندما عادتْ، وجدتْ زوجها، قد شنق نفسه بحبل في مرأب المنزل، في كليرمونت، كاليفورنيا. كان والاس يبلغ من العمر عند انتحاره 46 عاما، وكان يعاني منذ أشهر من جفاف قلمه. وقد شخّصت حالته المرضية أول مرة عندما كان طالبا جامعيا في كلية أمهرست، في أوائل ثمانينات القرن الماضي، باضطراب ثنائي القطب، أو ما يُعرف بالاكتئاب الهوسي.
كان والاس يتعرّض لتقلبات مزاجية حادّة، أجبرته على تناول الدواء، للتحكم في أعراض مرضه.لسنوات طويلة تعامل مع عائلة الأدوية السيئة السمعة مثل البروزاك والزاناكس والليثيوم، إضافة إلى العلاج بالصدمات الكهربائية. أنتج والاس روايتين طويلتين هما "مكنسة النظام"، و"مزحة لا تنتهي"، وثلاث مجموعات قصصية، وكتابين من المقالات إلى جانب كتاب "كل شيء وأكثر: تاريخ موجز للانهائية"، وروايته غير المكتملة "الملك الشاحب".
قبل انتحاره بثلاث سنوات في 2005، اعتلى ديفيد فوستر والاس منصة مسرح كلية كينتون، لمناسبة حفل تخرج طلبة العلوم الإنسانية، وألقى خطابه الأسطوري "هذا هو الماء"، وهو واحد من أهم خطابات التخرج الأدبية في التاريخ الأميركي الحديث، ومن ضمن ما جاء في الخطاب "فكِّروا في العبارة المبتذلة القديمة التي تقول إن العقل خادم ممتاز، ولكنه سيد فظيع". مثل العديد من الكليشيهات، تبدو العبارة ضعيفة،ومبتذلة على السطح، لكن ليس من قبيل المصادفة أن البالغين الذين ينتحرون بالأسلحة النارية، يطلقون النار دائما على الرأس. وهذا ما فعله ديفيد فوستر والاس إنما بأنشوطة عقدها حول رقبته. تخلّص والاس بنزاهة من استبداد سيده الرهيب.
يصف والاس عبقرية البنية الاجتماعية الأميركية بأنها متمركزة على القول المأثور "كل أميركي يسعى لتحقيق أقصى قدر ممكن من الخير، إلا أن هذا السعي قد لا يؤدّي بالضرورة إلى الخير المطلق"
كان مشروع والاس في الكتابة يتطلب منه اختراع لغة. كتب إلى محرره مايكل بيتش خلال عمله على روايته "مزحة لا تنتهي" التي نُشرت في 1996 "أريد أن أكتب كتابة تُعيد هيكلة العالَم وتجعل الأحياء يشعرون بالأشياء". كان يعلم أن تلك التصريحات تُظهره أحمق مقدسا، أو واحدا من رسل الأدب في زمن "الروك أند رول" وما بعده. كان على استعداد للموت في سبيل تحفيز القارئ.
سجين في جزيرة نفسه
لم يكن والاس يخجل من إشارته العاطفية إلى أنه يريد أن تكون أعماله مقروءة على نطاق الولايات المتحدة الأميركية، وادّعى أن كتاباته ترسم خريطة لنوع خاص من الحزن الأميركي. يصف والاس عبقرية البنية الاجتماعية الأميركية بأنها متمركزة على القول المأثور "كل أميركي يسعى لتحقيق أقصى قدر ممكن من الخير، إلا أن هذا السعي قد لا يؤدّي بالضرورة إلى الخير المطلق". تدّعي إحدى شخصيات والاس في روايته الأخيرة "الملك الشاحب"،التي نُشرت بعد موته"أن الأميركيين مجانين إلى حد ما، نحن نرضع أنفسنا، ولا نفكر في أنفسنا كمواطنين، بل كشيء أكبر،تقع على عاتقنا مسؤوليات جسيمة".
في مسوّدات روايته غير المكتملة، "الملك الشاحب"،كتب والاس "لا بد من أن تبدو الرواية للقارئ سلسلة من الإعدادات لشيء كبير على وشك الحدوث، تهديد بالحدوث، لكنه لا يحدث في الواقع". وصف الروائي جوناثان فرانزن حالة صديقه والاس، بأنه سجين مدى الحياة في جزيرة نفسه، وبأن كتابته للروايات كانت طريقة للخروج من الجزيرة، وطريقة في التواصل مع الآخرين. وبعد سنوات من النضال مع رواية 'الملك الشاحب'، أصبح والاس في حالة من اليأس الشديد... سئم من حِيَله القديمة. وكان غير قادر على حشد ما يكفي من الإثارة حول روايته.
كان انتقاد ديفيد فوستر والاس للثقافة الأميركية والرأسمالية المتأخرة واضحا وحادا في جميع أعماله، لهذا عمّده القراء الأكاديميون وغير الأكاديميين شخصية أميركية نموذجية تصلح لأن تكون رأس قطار جيل التسعينات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة.
في مقال لوالاس في بداية التسعينات عارض فيه قول الشاعر والناقد الإنكليزي الكبير ماثيو أرنولد (1822- 1888) "لا يوجد شيء خاص جدير بالملاحظة في الحياة الأميركية"، داعيا الروائيين الأميركيين إلى إثبات خطأ ماثيو أرنولد، إذ يجب ألّا يكون رأي هذا الأخير مصدر إحباط للروائي الأميركي، بل مصدر إلهام وتحدّ. اعتبر والاس على نطاق واسع مدافعا عن نمط الحياة الأميركية.
مزج والاس في كتابته اللغة الفنية باللغة العامية البسيطة، وكان نثره مشحونا بالكثافة الساعية إلى القبض على لحظات ميلاد الأفكار. كتب يوما "ما يجري في الداخل سريع للغاية وضخم ومترابط بحيث لا تستطيع الكلمات سوى رسم الخطوط العريضة لجزء صغير منه". وربما كان هذا هو السبب في الانطباع الغامض عن أضخم أعماله،وهي رواية "مزحة لا تنتهي"، التي تتجاوز 1000 صفحة، بأنها كانت تحتاج إلى مزيد من الصفحات.
كان والاس يفعل أمرين: يلقي النكات حول تجاربه مع ما تسمّيه مؤسسة الطب النفسي، بالاكتئاب، ويتهرّب من أي مقابلة صحافية تتعلّق بمتابعة عمله. وكانت نكاته دائما من قبيل "إذا كان لدى أي شخص أية أفكار حقيقية، أو وهمية،حول أسباب النهوض من السرير، فأنا جاهز لتلقّي الاقتراحات".
عالم مستقبليّ
تأخذ رواية "مزحة لا تنتهي"، اسمها من هاملت، الفصل الخامس، المشهد الأول، وفيه يحمل هاملت جمجمة مهرج البلاط يورك، ويقول: آه يا يورك المسكين، لقد عرفته. فيردّ هوراشيو: رفيق النكات التي لا تنتهي.
في عالَم رواية "مزحة لا تنتهي"، المستقبلي، تشكل الولايات المتحدة وكندا والمكسيك دولة عظمى موحدة، تُعرف باسم منظمة دول أميركا الشمالية. في هذا العالَم المستقبلي تُمنح الشركات فُرص تقديم عطاءات، وشراء حقوق تسمية الأعوام التقويمية، واستبدال أرقامها التقليدية المجردة، بألقاب فخرية تحمل أسماء الشركات، وعلى الرغم من أن الرواية مجزّأة، وتمتد لسنوات عدة مُسمّاة، إلا أن الجزء الأكبر من وقائعها يحدث خلال عام "الملابس الداخلية للبالغين"، بأمر من الرئيس الأميركي جوني جينتل المهووس بالنظافة، الذي قام بحملة لتطهير الولايات المتحدة مع ضمان عدم تعرض الأميركيين للأذى.
وصف الروائي جوناثان فرانزن حالة صديقه والاس، بأنه سجين مدى الحياة في جزيرة نفسه، وبأن كتابته للروايات كانت طريقة للخروج من الجزيرة، وطريقة في التواصل مع الآخرين
كانت منطقة شمال شرق الولايات المتحدة في يوم من الأيام جزءا كبيرا من المنطقة التي أصبحت جنوب شرق كندا، وهي في الرواية بمثابة مكب ضخم للنفايات الخطرة، يعرف لدى الأميركيين باسم "الكساد الكبير". ينسج والاس العديد من خيوط الرواية مثل "قَتَلة الكراسي المتحركة"، وهي مجموعة من المتطرّفين تخطط لانقلاب جيوسياسي عنيف، يقوده عملاء أميركيون رفيعو المستوى. على الجانب الآخر وصل العديد من سكان بوسطن إلى الحضيض بسبب مشاكل الإدمان، ودخلوا في برنامج التعافي،وإعادة التأهيل من المخدرات والكحول. وهناك طلاب يدرسون في "أكاديمية إنفيلد للتنس" التي يديرها جيمس وأفريل إنكاندينزا، وابن أفريل بالتبني تشارلز تافيس. يدور تاريخ عائلة إنكاندينزا حول الابن الأصغر هال. جميع خيوط الرواية ترتبط بفيلم يحمل اسم "مزحة لا تنتهي"، وهو فيلم آسر للغاية، إلى درجة أن كل من يشاهده يفقد الاهتمام بأي شيء آخر غير تكرار المُشاهَدَة، ويموت في النهاية.
هذا هو الفيلم الأخير لجيمس إنكاندينزا وقد أنجزه بمساعدة الممثلة الرئيسية جويل فان داين. يسعى الانفصاليون في كيبيك للحصول على نسخة من الفيلم لدعم الأعمال الإرهابية ضد الولايات المتحدة التي تُكرّس مكتب استخبارات سريا وظيفته منع استنساخ الفيلم وتوزيعه على نطاق واسع، أو العثور على مادة دراما ترفيهية مضادة يمكنها مواجهة تأثير الفيلم القاتل. تبحث جويل عن علاج تعاطيها للمخدرات في "منزل منتصف الطريق"، الخاص بعلاج المدمنين. ريمي مالات، وهو عضو وعميل مزدوج في مكتب استخبارات مكافحة الفيلم، يزور جويل في "بيت منتصف الطريق"، على أمل أن يجد لديها نسخة من فيلم الترفيه.
إعادة تأهيل القارئ
يدّعي بن، من شخصيات الرواية، أن الطقس البارد سيحدّ من الأضرار التي لحقت باللعبة. مايكل (شخصية أخرى) يردّ على بن: إنها تُثلج على الخريطة اللعينة لا على الإقليم. ينضم آخرون إلى التعليق متسائلين: هل الإقليم هو العالَم الحقيقي. يقترب والاس هنا من فكرة بورخيس عن رسم الخرائط، ودقة العلم، فلكي تكون خريطة الإقليم دقيقة في إظهار تضاريس الإقليم، فعليها أن تكون أولا بحجم الإقليم ذاته. فإذا أثلجتْ على الخريطة، ولم تُثلج على الإقليم، فقدنا التناظر الرياضي الفائق، على الرغم من أن التناظر الفائق بين الإقليم والخريطة، قد يجعل القارئ لا يُميّز بين الإقليم والخريطة، أي أين يقف على بعد مناسب كي يرى بنظرة بانورامية،الخريطة كلها، في أبعادها الحقيقية، كي يرى ويقرأ "مزحة لا تنتهي"، إعادة تأهيل القارئ،والقراءة معا، كما إعادة تأهيل مدمني المخدرات والكحول في الرواية.
يقول هال: يجب على رسّام الخرائط العاقل إدراك أن خريطته جزئية وستكتمل مع عمل رسّامي الخرائط اللاحقين بإضافة المزيد من التفاصيل والتضاريس. تأويل كلام هال كالتالي، على القارئ إدراك أن ديفيد فوستر والاس ليس رسّام خريطة "مزحة لا تنتهي"، الوحيد. يختلف المراجعون والنقّاد في تحديد زمن رواية "مزحة لا تنتهي" بدقة، وللقيام بذلك لا بد من الإشارة إلى حاشيتين ختاميتين في الرواية،عن قصة خيالية، وعن أعمال شغب لغوية.أيضا الحواشي من تقنيات بورخيس.
إن رغبة والاس في الموسوعية والتصنيف والقياس وعلم الأعداد، تجنح به إلى ما يشبه فيزياء كمومية بابلية،فوضوية. يختار والاس رقم 90 لجيمس إنكاندينزا الذي قضى حياته رصينا إلا في آخر 90 يوما من حياته، عندما أخرج فيلمه "مزحة لا تنتهي". أدمن هال، ابن جيمس، الماريجوانا لمدة عام، وقد بدأ انسحابه المؤلم في "بيت منتصف الطريق". لا بد عند نقطة ما من الإلمام بخيوط "مزحة لا تنتهي"، أن يتوقف القارئ لمعاينة أسلوب والاس، ولينظر إلى الخريطة غير المكتملة على الرغم من أن عدد صفحات الرواية، 1079 صفحة، و388 حاشية ختامية.
أكّد والاس أكثر من مرة أن حلول حبكة الرواية تقع ما بعد صفحتها الأخيرة، واعترف سرّا بأنه لا يستطيع فهم "مزحة لا تنتهي" بصورة كاملة
الواقع الهستيري الخانق، العرض الموسوعي للمعرفة، الحبكات الفرعية الباروكية، الهجاء السياسي الهزلي، الفكاهة الدماغية المهووسة، ما بعد الحداثة، المسح المجهري لتشوهات الجسد، الموسوعة الصيدلانية لتخليق أدوية المدمنين ومزجها، ما وراء الحداثة، نظرية الإعلام واللغويات، دراسات الأفلام، والرياضة، والإدمان، وعلوم الهوية الوطنية، كل شيء، ولا شيء في الوقت نفسه. غالبا ما تمزج رواية والاس بين الفكاهة والسخافة والكآبة دون تفضيل واحدة على الأخرى. أكّد والاس أكثر من مرة أن حلول حبكة الرواية تقع ما بعد صفحتها الأخيرة، واعترف سرّا بأنه لا يستطيع فهم "مزحة لا تنتهي" بصورة كاملة.
تدمير السرد
وصف والاس الحواشي الختامية الغزيرة في نهاية الرواية، كوسيلة لتدمير تماسك السرد، ووصف مرة ثانية حبكة الرواية والحواشي الختامية بأنهما في حالة صراع، العدد الصحيح هو الحبكة، والكسر العشري هو الحاشية، على طريقة فقرات كتاب "رسالة منطقية فلسفية" لفيتغنشتاين الذي يكتب على سبيل المثل فقرة تحمل رقم 5، ثم يتبعها بفقرة أخرى تحمل رقم 5,4، على أن تكون الفقرتان في الموضوع نفسه، لكن باختلاف وتفصيل، وهذا ما يفعله والاس في متن الرواية والقصة، وحواشي الرواية والقصة. الحواشي بمعنى آخر هي سلاح والاس لجعل القارئ أكثر يقظة، وجعل القراءة حركة متوترة طوال الوقت بين المتن والحاشية.
كان ديفيد فوستر والاس يُشبه إلى حد ما زعيم طائفة دينية، فهو يرى الترفيه في روايته "مزحة لا تنتهي"، خطيئة يحمل ذنبها كل المرفّه عنهم، المستمتعين، ولا بد من عقابهم. خطيئة الترفيه عند والاس مثل الخطايا السبع في فيلم Se7en للمخرج ديفيد فينشر (1995)، فالقاتل المهووس، كيفين سبيسي، يعاقب رجلا بدينا على خطيئة الشراهة، فيجعل البدين يأكل حتى تنفجر أمعاؤه، وهذا ما يفعله والاس في روايته من خلال فيلم "مزحة لا تنتهي" للمخرج جيمس إنكاندينزا، إذ أن من يشاهد الفيلم لا يستطيع الذهاب إلى المرحاض، لا يستطيع النوم، ولا الأكل والشرب، وفي النهاية يموت من تكرار مُشاهَدَة الفيلم.
عند معاينة المحقق مورغان فريمان في فيلم se7en، شقة القاتل كيفين سبيسي، يجد 2000 كراسة، تحتوي كل واحدة على 250 صفحة، متخمة بكتابة غزيرة كما هي رواية والاس. وصف الناقد والروائي الأميركي ديل بيك رواية والاس "مزحة لا تنتهي"، بطبق مقبلات شهي هائل، يعد بوصول الطبق الرئيسي لاحقا، إلا أن الطبق الرئيسي لا يصل أبدا.