ما الذي يؤسس لهذه الدينامية، وكيف تصبح أمرا اعتياديا، أو طبيعيا، في تصرفات الناس من دون أن يلفت أحد للمفارقة فيه؟ وهذا على اعتبار أن البقالات العربية الكثيرة في أمستردام، كما في عواصم ومدن أوروبية عدّة، تشكّل مساحات لتجمّعات بشرية في فضاءات محدّدة من المدينة. وهي شكل من أشكال "الجغرافيا الإنسانية" في تركيبتها الثقافية والاجتماعية. ويمكننا أن نقرأها أو نقاربها بواسطة كتابات الأكاديمي الصيني الأمريكي يي فو توان Yi-Fu Tuan الذي اهتم بفكرة "الجغرافيا الإنسانية وصناعة المكان" بناء على مكوّنات عدّة، أبرزها اللغة.
توابل وقهوة وحلال
يرى توان أن صناعة المكان تقوم على عملية تفاعل بين الأفراد، وبينهم وبين وبيئتهم المحيطة. وبواسطة هذا التفاعل يمثل الناس أنفسهم، وينتجون ما يسمّى "المنطقة أو النطاق الجغرافي الإنساني". لكن هذا النطاق لا يعني مساحة جغرافية محدّدة فحسب، بل هو ينشئ علاقة تفاعلية مزدوجة: بين الأفراد، وبينهم وبين المكان.
وينشئ انخراط الناس في هذه العملية فهما وتفاهما عاطفيين، أو فضاء عاطفيا في ما بينهم، يطورون فيه شكلا من أشكال ارتباطهم العاطفي أو الوجداني بمحيطهم ويستثمرون فيه. ويجادل توان بأن اللغة جزء لا يتجزأ وعنصر أساس في بناء المكان، ويقول "إن الكلمات يمكن أن تجعل الأشياء مرئية، أو تمنحها طابعا معينا". ويمكن اعتمادا على اللغة - وفقا لتوان - بناء الفضاءات العامة وصيانة استمراريتها، أو حتى تدميرها/ تفكيكها.
إضافة إلى اللغة، تنبني هذه الجغرافيا الإنسانية على أرضية ثقافية أكثر تعقيدا. فالبضاعة المعروضة على رفوف المتجر (العربي في هذا السياق) تنشئ تفاهما مشتركا بين البائع والمشترين، وتشكل لغة مشتركة بين الزبائن، وفضاء ثقافيا واجتماعيا يجمعهم من دون سواهم.
ورائحة التوابل، القهوة العربية، اللحوم (الحلال)، وحتى الخضروات والفاكهة التي تسعّر وتباع بالكليوغرام في متاجر العرب - وليس بالقطعة كما في كثير من المتاجر الهولندية - تشكّل تفاصيل تشي بفهم وسلوك مشتركين لا يحتاجان إلى الكثير من الشرح. والتفاصيل هذه، هي ما يؤسّس المساحة الجغرافية الإنسانية، والفضاء التفاعلي بين الناس. وما يجعل السيدة (م. ع.) ترفع صوتها مرتاحة وتتكلم بالعربية.
الطعام لغة عاطفية
وتبدأ أمارات هذا الفهم والتفاهم من اختيار البضائع ومصادر استيرادها. لكنها تتجاوزه إلى أن تشي بنوع المآكل والأطباق والمائدة التي تصنع منها البضائع أو المواد المعروضة في المتجر. وهي تشي أيضا بما تركه المهاجر خلفه في البلاد التي وفد منها، وبما يودّ استعادته ولو جزئيا في حياته اليومية في مهجره الأوروبي. وهكذا يتحول الطهي والطعام مادة/ لغة عاطفية للحنين، أو بحثا عن دفء اجتماعي مفقود.
أبعد من هذا المستوى النفسي، توفر أشكال شراء السلع فهم أمور أخرى، سوسـيولوجية وأنثربولوجية، عن زبائنها في المتجر، منها تركيبة الأسرة العربية التي تكون ممتدّة أو موسّعة في أحيان كثيرة.
قد نقع هنـــــا في فخ التعميم. لكن الشائع أن عدد الأبناء في الأســـــر العربية المهــــاجرة على وجه التعميم، يتجاوز عددهم غالبا في الأسرة الأوروبية وكذلك تختلف العلاقات والوشائج فــــي كـــــلّ من الأسـرتين. لــــذلك يـكـون من الأيـسر والأجدى اقتصاديا للأسرة العربية شراء سلع طازجة وبالكيلوغرام أو حتى الجُملة، بدل شرائها بالتجزئة، أو بعدد الحبّات.
وفي هذا السياق تحضر علامات المعرفة بإيقاع الحياة الاجتماعية الذي يميل الشرقيون إلى جعله بطيئا وأقلّ عملية. والبطء يشمل الطهي على نار خفيفة. وتجد الشرقيين أكثر تفضيلا لشراء مكوّنات الطهي والمائدة طازجة، وليس نصف المطهوة أو المجلّدة والسريعة التحضير.
وتجدهم أيضا يعاملون الطعام والمائدة بوصفهما طقسا لا روتينا يوميا. وهناك كذلك عادة أن تغلق البقالات العربية أبوابها في مناسبات وعطل غير هولندية.
وتعلَّق لذلك لافتة على البقالات المغلقة مكتوب عليها - بالهولندية هذه المرة -"مغلق بمناسبة عيد الفطر، أو الأضحى"، إذ لا حاجة بالعربي إلى توضيح بهذا الشأن.
تفكيك المكان وإعادة بنائه
مع تزايد موجات الهجرة واللجوء العربية وغير العربية وتوسّعها إلى أوروبا، راحت بعض مراكز البحث الأوروبية تحاول دراسة ظاهرة البقالات العربية والصينية المتزايدة في مدن أوروبية كثيرة، تحت عنوان commerce ethnique، أي الأعمال أو الأسواق الإثنية.
وسرعان ما بدأت تظهر في المتاجر الكبرى الأوروبية زوايا خاصة بالمنتجات العربية. وذلك كمجرّد منافسة في السوق الرأسمالية.
إنها، كما أسلفنا، من مظاهر تفكيك المكان وإعادة تركيبه، التي أشار إليها توان. ومـــا يفعلــــه الركن الشــــرقي في المتاجر الأوروبية، حيث تُوضب أكياس الكسكس وزيت الزيتون المـــــغربي، أو الحمص والمتبَّل المصنّـــــــعان والمـــــعلّبان في هولـــــندا، إضافة إلى التوابل الشرقية، وركن اللحوم الحلال، لا يعدو كونه منافسة ســـــــوق. خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه المنتــــــجات أصبحت مألوفة للمستهلك الهولندي الذي صار ينتقي منها ويضيف منها إلى مائدته.