سئل فريديريك وورمس، أستاذ الفلسفة المعاصرة في المدرسة العليا للمعلمين في فرنسا: "كيف تساعد الفلسفة على التفكير في الكوارث؟"، فأجاب: "يمكننا أن نميز بين تقليدين فلسفيين بصدد الكوارث. التقليد الأول هو نوع من الحكمة التي تذكرنا بمواقف اليابانيين إزاء مختلف الأهوال. تلك الحكمة التي تتقبل الكارثة كواقعة طبيعية. هذا ما نلفيه في الفلسفة القديمة التي تفكر في الحياة، وخصوصا عند الرواقيين، كدورة يتعاقب فيها التقدم والكوارث ويتبادلان الأدوار. أما التقليد الثاني فقد دشنته الفلسفة الحديثة بإرسائها لمفهوم التقدم: الإنسان هو الذي ينجو بنفسه من الكارثة عن طريق التقدم. أمام هذين التقليدين، نجد أنفسنا اليوم في لحظة فريدة من نوعها. إننا نعيش عهدا نعيد فيه النظر في مفهوم التقدم ونتهمه، وفي الوقت ذاته، لم يعد بإمكاننا الرجوع إلى فكر يرى في الكوارث أمرا طبيعيا كما كان عليه الأمر عند القدماء والرواقيين على وجه الخصوص، وذلك لأن كوارثنا هي كذلك كوارث سياسية وتقنية".
هناك إذن تجدّد لطبيعة الكوارث، وهذا أمر يستدعي تجديدا لأساليب التفكير فيها، ومن ثمة عدم الاكتفاء بإحياء أحد التقليدين اللذين ذكرهما الفيلسوف الفرنسي. بهذا المعنى فالكوارث تشكل اليوم تحدّيا لكل تفكير فلسفي، خصوصا وأنها تطلب منا أن نعمل الفكر في حدث ممكن الوقوع، حتى نتمكن من تفادي وقوعه.
ولإدراك هذه الصعوبة ربما وجب علينا، أولا وقبل كل شيء، أن نميّز الكوارث عن الأخطار. فنحن يمكننا أن نتوقع الأخطار، بل يمكننا أن نحمي أنفسنا منها، ونأمل تعويض أضرارها في ما بعد. أما الكارثة فهي تتميّز بنوع من المفارقة: فعندما لا تكون قد حدثت بعد، لا يمكن تصوّرها ولا تصوّر نتائجها، لكن، ما أن تحدث، حتى تعمينا بهولها، وتفجعنا بما يتمخّض عنها، فلا يعود بإمكاننا أن نتخلى عن التفكير فيها.
تشكل الكوارث اليوم تحديا لكل تفكير فلسفي، خصوصا وأنها تطلب منا أن نعمل الفكر في حدث ممكن الوقوع، حتى نتمكن من تفادي وقوعه
وبما أننا لا نستحضر دوما تاريخ الكوارث "فنتناساها"، وبما أننا غرسنا في ذهننا، أو لنقل إن التقنو-علم غرس فينا شعورا بأننا "سادة على الطبيعة، ممتلكون لها" كما كتب أبو الحداثة الفلسفية، فإن روحنا التفاؤلية هذه، وثقتنا بأنفسنا، تجعلاننا نستبعد الكوارث، ولا نتوقعها. لذا فهي تكون دوما حدثا مباغتا "لم يكن في الحسبان".
يميز وورمس بين أفقين ممكنين للفعالية البشرية، وهو يضبط تعارضا بينهما، أحدهما إيجابي والآخر سلبي وهما، على حدّ تعبيره، "أفق الثورة، وأفق الكارثة". وهو يرى أننا طالما عشنا ضمن الأفق الأول، ولا نزال نقاوم تصور الأفق الثاني ونحيد بأنظارنا عنه، لأننا نعتقد أن ذلك يقتضي التخلي عن الفكرتين اللتين تتضمنهما فكرة الثورة وأعني مفهومي التقدم والعدالة. إلا أننا نعتقد، أن إصرار أستاذ مدرسة المعلمين العليا على رفض ما سماه التقليد الفلسفي الأول، والذي أرجعه أساسا إلى الفكر الرواقي، أمر يحتاج إلى توقّف وإعادة نظر.
ذلك أن الفلاسفة الرواقيين، إبيكتاتوس وماركوس أوريوس على وجه الخصوص، قد حاولوا إقامة فلسفة تواجه الأهوال قبل أن تطرح الحداثة في ما بعد هذه المفهومات التي يخشى وورمس ضياعها، وأعني مفهومات الثورة والتقدم والعدالة. ونحن نعتقد أننا لسنا وحدنا من يدعو إلى الاستعانة بالموقف الرواقي بهذا الصدد. بل إن وورمس نفسه يربط بين سلوك اليابانيين اليوم إزاء الكوارث، وبين حكمة الرواقيين. كما أننا لا ينبغي أن ننسى أن بعض الحداثيين ما فتئوا ينادون بالرجوع إليهم، وأخذ العبرة من حكمتهم. فالمعروف أن الفيلسوف آلان (1951)، على سبيل المثل، كان معجبا أشدّ الإعجاب بـمحاورات إبيكتاتوس وخواطر مارقوس أوريوس، فكان يعتبرهما كتابي العصور الحديثة، وقد كانا في نظره، لا يزالان يتمتعان بالطراوة التي كانا يتمتعان بها خلال قرون. "إنهما كتابان ثوريان بكل معاني الكلمة". وقبل آلان، كان باسكال يعتبر كتاب ماركوس أوريوس "رمز الحكمة البشرية".
لا يعني ذلك فحسب أن الكوارث تعري الواقع و"تكشف عن هشاشته فحسب"، وإنما أنها تغيّر مفهومنا عن الزمان، وتشعرنا أن رد فعلنا إزاءها ينبغي أن يتم على الفور
لقد علمنا هذان الفيلسوفان، وأحدهما كان عبدا، بينما كان الآخر إمبراطورا، أن نميز العناصر التي لا تتوقف علينا، عن تلك التي يمكن التصرف فيها و"التعامل معها". إذ إن هناك أمورا "تمتُّ إلى طبائع الأشياء"، وهذه لا حول للإنسان إزاءها ولا قوة. لو انطلق المرء من هذه التفرقة، فإن خلاصه وضياعه سيعودان بيده. لأنه "إذا لم يكن من الممكن له أن يكون ما يريده، فعليه أن يريد ما يكون" كما يقول الإمبراطور الروماني. لا يتبقى على الإنسان إذن إلا أن يتقبل ما يعجز عن تغييره، وذلك بأن "يدخل في حسبانه أنه جزء من كل يتجاوزه".
لا يعني ذلك أن طمأنينة الإنسان وليدة موقف سلبي. إنها، على العكس من ذلك، وعي فاعل يستنير بما في الكوارث من "قوة سلبية" تلقي الأضواء على واقع الأمور. لا يعني ذلك فحسب أن الكوارث تعري الواقع و"تكشف عن هشاشته فحسب"، وإنما أنها تغيّر مفهومنا عن الزمان، وتشعرنا أن رد فعلنا إزاءها ينبغي أن يتم على الفور. هناك نمط زماني تفرضه الكوارث هو نمط "العاجل" إنها تستحثنا على التدخل الفوري، والاستجابة السريعة، إضافة إلى أنها تدفعنا إلى طرح قضايا ميتافيزيقية كبرى فنسائل أنفسنا: على ماذا نعوّل بالفعل؟ كما تجعلنا على وعي، ليس بهشاشة واقعنا العمراني والاجتماعي والصحي فحسب، وإنما هشاشة وضعنا البشري... وربما جعلتنا أيضا على وعي بقدرتنا على الانفتاح على الآخر، والتضامن معه لقهر الصعاب، وتخطي الكوارث، ومواجهة الأهوال.