ويترك مارياس جوانب معينة من السرد مفتوحة للتأويل، مخلّفا القراء في خضم تعقيدات شخصياته ودوافعها، ناسجا بدربة عالية حبكات معقّدة بنثر كثيف وتأمّلي يتضمّن أسرارا وألغازا ومعضلات أخلاقية صعبة. وتتجلّى ثقافة مارياس العالية ودرايته العميقة بالأدب العالمي في الإشارات التي لا تحصى في أعماله والإحالات الكثيرة إلى أعمال أدبية أخرى، ليضيف عمقا وطبقات من المعنى إليها. ويتكرر في رواياته كل من ثيمات الذاكرة والزمن حيث يشكل الماضي الحاضر ويمهد له، ويؤكد عمل الذاكرة الانتقائي وغير الموثوق بها في تشكيل سرديتنا الخاصة عن أنفسنا. وتنخرط شخصيات مارياس في التأمل العميق وتشرح أفكارها وعواطفها، في حفر عميق في سيكولوجيا هذه الشخصيات يعرّي أعمق أفكارها ومخاوفها.
بيت عامر بالفن والحب
الوالد خوليان مارياس الفيلسوف الإسباني وعضو الأكاديمية الملكية الإسبانية الذي عارض ديكتاتورية فرانكو وعاش في المنفى ودرّس في جامعات ييل وهارفارد وغيرها من الجامعات العريقة في الولايات المتحدة. والوالدة الكاتبة دولوريس فرانكو مانيرا. والأخوة فرناندو الأكاديمي والمؤرخ الفني، وميغال الناقد السينمائي وألفارو الموسيقي، والخال خيسوس فرانكو مانيرا المخرج السينمائي المعروف.
كتب خوليان مارياس العديد من الدراسات الفلسفية التي أثرت على جيل كامل من المفكرين والكتاب الإسبان، وقد ترجم الدكتور المصري علي المنوفي كتاب خوليان الأساسي "إسبانيا بشكل جليّ: المنطق التاريخي للبلاد الإسبانية" (1985) إلى العربية وصدرت الترجمة عن "الكتب خان" في مصر (2014) وفيه يؤكد خوليان أن تاريخ إسبانيا كتب من وجهة نظر دول أوروبية أخرى، وأسهب في فكرة "الاستغراب" الذي تثيره إسبانيا لدى هذه الأمم الأخرى، لذا أراد دراسة تاريخ بلاده دون تشبيهها بفرنسا أو ألمانيا أو إنكلترا، بل استيضاح ما كانت عليه، وما هي فيه، وما يمكن أن تكونه.
مسيرة أدبية مبكرة وحافلة
كتب مارياس أولى قصصه القصيرة "حياة وموت مارسيلنو إيتورياغا"في الرابعة عشرة من عمره، ثم أنهى أولى رواياته "سيطرة الذئب" (1971) في السابعة عشرة من عمره، وتدور أحداثها في الولايات المتحدة حول عائلة أميركية في بدايات القرن العشرين تعيش مغامرات مليئة بالإثارة والميلودراما، وأهدى الرواية للكاتب الإسباني خوان بينت الذي ساعده في نشرها، والذي يعد واحدا من أهم الكتاب الإسبان في القرن العشرين ويقارن حتى اليوم بكل من بروست وجويس وفوكنر. كما أهدى الكتاب أيضا إلى فيسنتي مولينا فوا الشاعر والمخرج الإسباني الذي اختار له العنوان.
جاءت الرواية الثانية "عبور الأفق" (1972) لتؤكد أسلوبه غير التقليدي في السرد الروائي المبتكر، والتي تدور أحداثها في رحلة استكشافية إلى القارة القطبية الجنوبية يقودها الكابتن الثري والغريب الأطوار كيريغان مع مجموعة من الكتاب والعلماء والفنانين. وتستكشف هذه الرواية الطبيعة البشرية والهوس وعلم النفس ويتجنب فيها مارياس أي حل للحبكة مسترسلا في السرد ليشير للقارئ أن حقيقة ما حدث لا تهم في النهاية، بل ما يدور حول ظلال هذه الحقيقة.
في روايته الثالثة "ملك الزمان" (1978) قسّم مارياس العمل خمسة نصوص ركّز فيها على العناصر البلاغية وسحر اللغة أكثر من تركيزه على الحبكة والشخصيات مع المزيد من الفكر والتأمل.
الرواية الرابعة لمارياس هي رواية "القرن" (1982) التي لم تترجم إلى الإنكليزية، وتدور حول قاض متقاعد يتحول إلى مخبر للشرطة في فترة الحرب الأهلية الإسبانية وعلى عكس أبطال الروايات الإسبانية عن تلك الحقبة لا يشعر بأي تأنيب ضمير أو بالذنب تجاه أفعاله. تعد هذه الرواية من الروايات المفضلة لدى مارياس نفسه، ولكنها لم تحظ بالاهتمام النقدي أو اهتمام القراء الكافي حتى أن الناشر نفسه لم يكن متحمسا لنشرها، ربما بسبب أسلوبها الكثيف وجملها وفقراتها المطولة وافتقارها إلى الكثير من الحوارات كما يرجح بعض النقاد.
ثم نشر مارياس روايته الخامسة "الرجل العاطفي" (1986) التي وصفها بأنها قصة حب لا يُرى فيها الحب ولا يُعاش، بل يُستدعى ويُستذكر. يسرد الراوي مغني الأوبرا الشهير ليون دي نابوليس قصة حدثت قبل أربع سنوات عندما كان في مدريد يجري البروفات على أوبرا "عطيل" لجوزيبي فيردي حيث يتعرف على ناتاليا مانور السيدة الغامضة والحزينة وزوجها المصرفي العنيد السيد داتو.
أما الرواية السادسة لمارياس فهي "كل الأرواح" (1989) التي تتحدّث عن يوميات أكاديمي إسباني زائر في أكسفورد وعلاقته الغرامية مع امرأة إنكليزية متزوجة، حيث يلتقيان دائما في غرف الفنادق بعيدا عن عيني زوجها، ويتعرف على عالم أكسفورد الأكاديمي وهذه المدينة التي لا تضطر فيها للكثير من العمل، ويعالج مارياس بعمق في هذه الرواية ثيمات الشهوة والوحدة والغرور والذاكرة.
"قلب أبيض جدا" (1992)
الرواية السابعة لمارياس وواحدة من روائعه الميلودرامية الصادمة، التي أخذ عنوانها من مسرحية "مكبث" لشكسبير عندما تقرّع الليدي مكبث زوجها الذي ندم على القتل وخاف ألا تغسل بحار "نبتون" العظيمة كلها هذا الدم على يديه، فتقول: "يداي بلونك، غير أنني أخجل من أن أحمل قلبا كالحا مثلك" (بترجمة جبرا إبراهيم جبرا) وفي الترجمة العربية المعتمدة للرواية تصبح العبارة "قلب أبيض جدا".
تلقي حادثة انتحار خالة البطل خوان وزوجة أبيه بظلالها على المترجم المتزوج حديثا، رغم أن الانتحار وقع قبل ولادته، فيتورط في شبكة من الأسرار العائلية التي يعود تاريخها إلى الحرب الأهلية الإسبانية، مما يجعله يغرق في موجة من التشاؤم حول المستقبل الذي يمثل بوابة الجحيم. الرواية في جوهرها عبارة عن تأمل في الأسرار التي نخفيها عن الآخرين وعن أنفسنا ضمن تعقيدات الزواج، وثقل التاريخ الذي نحمله على كواهلنا وصراعنا مع أشباح الماضي. وتحمل الرواية نفسا فلسفيا وبوليسيا يعالج أسئلة إنسان العصر الغارق في الشك واللايقين.
صدرت الرواية بالعربية عن "منشورات المتوسط" في إيطاليا بترجمة علي إبراهيم أشقر في 2018.
"فكّر فيَّ غدا أثناء المعركة" (1994)
واحدة من أفضل روايات مارياس وروايته الثامنة التي تعالج مواضيع الحب والذاكرة والعواقب الأخلاقية لأفعال الإنسان. تدور الرواية حول شخصية فيكتور، المترجم وكاتب الظل، الذي يتورّط في موقف معقد أخلاقيا، فبعد أن التقى مارتا مصادفة وذهب معها إلى منزلها بعد سفر زوجها إلى لندن، وتعرف على طفلها الصغير أيضا، تموت مارتا بين يده فيتركها ويهرب.
يشعر فيكتور بإحساس عميق بالذنب والمسؤولية عن وفاة مارتا، على الرغم من أنه ربما لم يلعب دورا مباشرا في ذلك. تستكشف الرواية صراعات فيكتور الداخلية وهو يتصارع مع الآثار الأخلاقية لأفعاله واختياراته. تتعمّق الرواية في تعقيدات الذاكرة والحقيقة والخطوط غير الواضحة بين المسؤولية والمصادفة.