إيطاليا "الطيبة" تبحث عن روحها في ثمانين "فينيسيا السينمائي"https://www.majalla.com/node/299406/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A5%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%8A%D8%A8%D8%A9-%D8%AA%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%B1%D9%88%D8%AD%D9%87%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%AB%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7%D8%A6%D9%8A
شهد مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الثمانين (30 أغسطس/ آب – 9 سبتمبر/ أيلول)،ما اعتبر إعادة اعتبار إلى روح إيطاليا الطيبة. فقد شرع كثير من الأدباء والفنانين في نفض الغبار عن مكنون "الروح الإيطالية"، وعن مقولة "الإيطاليون أناس طيبون" التي تواجه تحدّيات جدّية في الآونة الأخيرة، وذلك إثر موجة معاداة الأجانب والتهديد بإغلاق الموانئ في وجه سفن الإغاثة التي اتّهم طواقمها أكثر من مرة، وجلّهم من المتطوعين، بأنهم شركاء للمهربين في "تجارة البشر".
لعلها محض مصادفة، لكن افتتاح المهرجان بفيلم "القائد" Comandante الذي يمجّد هذه الروح، حمل أكثر من دلالة ثقافية وسياسية، وتسبّب في جدال واسع حول محتواه وما إذا كان يحمل في طياته رسالة ما إلى التحالف اليميني الذي يقود الحكومة الحالية.
يعود فيلم "القائد" إلى الحرب العالمية الثانية ليروي قصة قائد غواصة يقرّر التخلي عن قواعد الحرب لصالح قواعد البحر، ويهبّ إلى نجدة قارب نجاة محمّل بـ "الأعداء"
"القائد": مسرح الحياة
يروي فيلم "القائد" قصة الغواصة كابيلليني التابعة للبحرية الملكية الإيطالية، التي أغرقت سفينة شحن بلجيكية في عام 1940 في أثناء عملياتها في المحيط الأطلسي. كانت السفينة البلجيكية تبحر والأضواء مطفأة وكانت البادئة بإطلاق النار على الغواصة. قوانين الحرب، في هذه الحالة، تفرض التخلي عن الناجين، وعددهم ستة وعشرون، من بينهم خمسة من أصول إفريقية، احتشدوا جميعا على قارب نجاة، وبالتالي حكم عليهم بالموت المحقق، لكن سلفاتور تودارو، قائد الغواصة، يتجاوز القوانين العسكرية وأوامر الحلفاء الألمان، ملتزما بقانون البحار فحسب، ويقرّر إنقاذهم. وهذه النقطة بالضبط كانت مثار جدال كبير في وسائل الإعلام من الجهتين، اليمين واليسار بكل أطيافهما.
ولعلّ الوحيدين اللذين ظلا هادئين وسط الصخب الذي أحاط بالفيلم، هما المخرج إدواردو دي أنجيليس والممثل بيار فرانشيسكو فافينو الذي أدّى دور قائد الغواصة، على الرغم من خشيتهما من تصريح ناري من قبل نائب رئيسة الوزراء ماتيو سالفيني، الذي كان حاضرا عرض الفيلم. وحول قصة قائد الغواصة سلفاتور تودارو، صرّح دي أنجيليس خلال مؤتمره الصحافي: "إن ردود أفعال من يشاهد الفيلم لا يمكن أن يسيطر عليها صنّاع الفيلم. أتمنّى الاتفاق على أن هناك قوانين أبدية مثل قوانين البحر، يجب عدم انتهاكها مطلقا". أما بيار فرانشيسكو فافينو، بطل الفيلم، فأضاف من جهته: "كونك إيطاليا يعني إنقاذ حياة البشر، الخوف والإبداع لا يلتقيان، وبالتالي لا يمكنك فعل شيء إن كنت خائفا من حدوث شيء ما. لقد حققت أعظم إنجازاتي انطلاقا من جرأتي. فما كان بوسعي، دون ذلك، أن أؤدي دور زعيم المافيا المنشق تومّاسو بوشيتّا أو رئيس الوزراء السابق بتينو كراكسي الذي فرّ إلى تونس خوفا من ملاحقة القضاء ومات هناك، ولا تزال الحكومة الإيطالية ترفض نقل رفاته إلى مسقط رأسه. أما في ما يتعلق بماتيو سالفيني (سكرتير حزب الرابطة المعروف بمواقفه المتطرّفة ضد المهاجرين)، فوظيفتي ليست تغيير آراء الناس، بل إعطاء الإمكان ليفكروا كيفما يريدوا".
عندما صعد القبطان البلجيكي على متن الغواصة، سأل تودارو: لماذا أنقذتنا؟ فأجاب: لأننا إيطاليون. ضابط فاشي ويعتبر نفسه في المقام الأول ملكيا، لا ينسى أنه بحّار، وبالتالي عليه أن يحترم قوانينه التي لا تجيز ترك الأشخاص لمصيرهم.
يقول الروائي المعروف ساندرو فيرونيزي، الذي اشترك مع المخرج في كتابة السيناريو: "بزغت فكرة الفيلم عام 2018، عندما كان سالفيني وزيرا للداخلية، حيث كان هناك حديث وجدال حول إغلاق الموانئ في وجه المهاجرين. لقد تفاقم العار نتيجة تجاهل القواعد البحرية القديمة والأساسية، كانت الأجواء مثقلة بعدائية مقيتة في تلك الأيام، وثمة عبارات استفزازية تنقلها وسائل الإعلام، مثل: لقد انتهت رحلات اللاجئين المجانية على متن بواخر سياحية (أي سفن غوث اللاجئين). لقد كانت قصة القبطان تودارو مناسبة لتؤكد مجددا رسوخ قيم حضارة البحر الأبيض المتوسط التي ننتمي إليها. لقد وضع تودارو خدمة الوطن قبل الأسرة واحترام التقاليد قبل خدمة الوطن". لكن إيطاليا انحرفت نحو اليمين، وبدت الأرض خصبة لاستدلالات ذرائعية تنفي وتشرعن حسب احتياجات الساعة. "إنها قصة - يقول فافينو - حول معنى أن تكون إيطاليا، حتى لو لم تكن هناك طريقة واحدة لأن تكون كذلك. أنا أنتمي إلى عائلة كان يتعين عليّ أن أتخلى عن غرفتي إذا أحضر والداي صبيا وجداه عند إشارة المرور، لعل مردّ ذلك أنني من الجنوب، حيث، كما يقال عندنا، ما يكفي لستة أفواه، يكفي لثمانية أيضا. لقد كان بابنا مفتوحا دائما". ويتابع قائلا: "لم ينطلق تودارو في مهمة بفكرة إنقاذ حياة البشر، لقد اكتشف ذلك لاحقا. تحدثت إلى ابنته غرازييلا مارينا، التي لم تعرف والدها الذي توفي عام 1942، لقد تأثرت وقالت لي: لم أسمع صوت أبي من قبل، والآن سمعته".
غواصة تحولت إلى مسرح للحياة، حيث الشخصيات عالقة في مساحة لا يمكنهم الهروب منها وحيث يتعين على الجميع "لعب" أدوارهم بأمانة ودون تزييف. وربما لهذا السبب اضطر المخرج إلى جعل الضرورة فضيلة من خلال التخلص من الخيارات المذهلة الباهظة الثمن لسينما الحرب على الطراز الأميركي. لقد حول إدواردو دي أنجيليس مغامرة الكابتن سلفاتوري تودارو إلى مسرح للأفكار، حيث كانت الكاميرا ملتصقة دائما تقريبا بوجوه البحارة، مع التركيز بشكل أكبر ليس على الأفعال، بل على الكلمات، على الرغم من حثّ الطاقم على الجهوزية التامة والاستعداد لمواجهة كلّ طارئ، ولكن بمجرد إبحارهم، تسيطر الروح الإيطالية على "المسرح" من خلال حيوية الشخصيات، وخيار تودارو الوقوف إلى جانب الأعداء الناجين، والتخلي عن أي طيف أيديولوجي يمكن أن يعكر الوئام الذي نشأ بين الطرفين، بما في ذلك تبادل الآراء حول تحضير الأطباق الشائعة في كلا البلدين.
"أنا القبطان"
أما فيلم "انا القبطان" Lo Capitano، فيمكن اختصاره في الصرخة الآسرة والأليمة التي يرسلها سعيدو إلى السماء عندما يصبح على بعد بضعة أميال بحرية من صقلية، بعد الرحلة الملحمية من دكار إلى السواحل الإيطالية مرورا بمالي وأغاديز في النيجر والصحراء الليبية وأخيرا معسكرات التعذيب وشاطئ طرابلس. أوديسة معاصرة عبر كثبان الصحراء وأخطار البحر وغموض الإنسان. الفيلم إنتاج إيطالي بلجيكي مشترك وصوّر في السنغال والمغرب وإيطاليا، استنادا إلى قصص العديد من المهاجرين الذين اتبعوا المسار- نفسه. وقد ولد الفيلم من فكرة كتبها المخرج مع ماسيمو جاوديوسو وأندريا تاليافيري وماسيمو تشيكيريني، الذين سبق لهم أن تعاونوا مع غارّوني في كتابة سيناريو فيلم بينوكيو (2019).
كان سعيدو سار، بطل الفيلم، يعاني من المرض نفسه الذي أدّى إلى عمى والدته، وكان من المقدر له أن يفقد بصره، لكن بعد تصوير الفيلم جاء إلى إيطاليا وخضع لعملية جراحية وتعافى، وهو يعيش حاليا مع عائلة المخرج الإيطالي ويحلم بمواصلة عمله كممثل. في الفيلم، سعيدو سار هو يافع سنغالي يغادر إلى أوروبا مع صديقه موسى (مصطفى فال). سعيدو يخطط للرحلة لفترة طويلة دون أن يخبر والدته التي منعته من المغادرة، قائلة له: "عليك أن تتنفس الهواء الذي أتنفسه"، في محاولة لحمايته من الخطر وخشية أن تفقده. لكن سعيدو يغادر سرا وينتهي به الأمر بالضياع، أولا في الصحراء، ثم في مراكز الاحتجاز الليبية، إلى أن يقبل عرض أحد المهربين الذي يقترح عليه قيادة قارب صيد محمل بالمهاجرين من ليبيا إلى إيطاليا، فيجد نفسه في عرض البحر وسط عاصفة ودون أي إرشاد للمسار الذي يتعيّن عليه أن يسلكه. المشهد الأخير الذي استلهم منه عنوان الفيلم هو لقطة قريبة لعيني الصبي وهما تغرورقان بالدموع، بينما تحلق مروحية تابعة لخفر السواحل الإيطالي فوق قارب الصيد.
يحتوي "أنا القبطان" على جميع العناصر التي تجعل منه اختبارا حقيقيا للآراء النقدية المتعارضة. فعلى سبيل المثل، لا يهرب اليافعان من الفقر أو الحرب، بل يختاران المغامرة حبا بالمغامرة فحسب، وهو ما يجافي الحقيقة تماما، إذ إن معظم المهاجرين يلجؤون إلى هذا الاختيار الصعب الذي يمكن أن يودي بحياتهم
على الرغم من ذلك، تبقى إيطاليا في مخيلته، حتى اللحظة الأخيرة، بمثابة حلم عصي لا يمكن بلوغه، سراب في الصحراء، لكن على بعد أميال قليلة من الوجهة، يتنفس الصعداء ويصرخ عدة مرات، ما بين الأمل واليأس: "أنا القبطان ... أنا القبطان ...". يدّعي سعيدو أنه هو من كان وراء الدفة وهو من قاد سفينة الصيد، مع أنه، كما يقال، مرغم أخوك لا بطل! إنما في تلك الصرخة، في تلك اﻠ "أنا"، يكمن التحول الجذري في حياته. فمن يافع يصبح رجلا وهو يحاول إنقاذ أرواح من اعتمدوا على بأسه وإصراره خلال مغامرة لا أحد منهم كان بإمكانه أن يتصور نهايتها. "باختياري العمل مع شبان أفارقة، حاولت أن أعطي صوتا لأولئك الذين -عادة- لا يملكون صوتا – صرح ماتيو غارّوني وهو يتسلم جائزة الأسد الفضي - أشكر الممثلين على أدائهم الاستثنائي، لأنهم تمكنوا من إضفاء أبعاد إنسانية وروحانية عظيمة على ما كتبناه".
يحتوي "أنا القبطان" على جميع العناصر التي تجعل منه اختبارا حقيقيا للآراء النقدية المتعارضة. فعلى سبيل المثل، لا يهرب اليافعان من الفقر أو الحرب، بل يختاران المغامرة حبا بالمغامرة فحسب، وهو ما يجافي الحقيقة تماما، إذ أن معظم المهاجرين يلجؤون إلى هذا الاختيار الصعب الذي يمكن أن يودي بحياتهم، إما بسبب الحروب أو بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في أوطانهم. ويلمّح الفيلم أيضا، وهو ما تم نفيه باستمرار، أن المهربين الليبيين يمتلكون بحوزتهم أرقام الهواتف المحمولة للمنظمات غير الحكومية التي تعمل في البحر لإنقاذ المهاجرين أو اللاجئين، أي أن ثمة تعاونا بينهم في عمليات "التجارة بالبشر". ومن ناحية أخرى، يسلط الفيلم الضوء على التعاون الملتبس بين خفر السواحل الإيطالي والسلطات البحرية المالطية في ما يتعلق بمصير المهاجرين ومنعهم من الدخول إلى مياههم الإقليمية.
أخيرا، بطريقة ما، يبدو أن ماتيو غارّوني يبدأ قصته من فيلمه السابق، إذ أنه يظهر سعيدو وموسى وكأنهما بينوكيو ولوسينيولو في طريقهما إلى أرض اللهو والألعاب، محاطين بالقطط والثعالب المستعدة لافتراسهما مستغلين سذاجتهما.
جوائز
يذكر أن لجنة تحكيم مهرجان فينيسيا السينمائي التي يترأسها داميان شازيل، والمكوّنة من الممثل الفلسطيني صالح بكري، والمخرجة النيوزيلندية جين كامبيون، والمخرجة الفرنسية ميا هانسن لوف، والمخرج والممثل الإيطالي غابريال ماينيتي، والمخرج والكاتب المسرحي البريطاني مارتن ماكدونا، والمخرج الأرجنتيني سانتياغو ميتري، والمخرجة الأميركية لورا بويتراس، والممثلة التايوانية وعارضة الأزياء شو كي، قررت منح الجوائز التالية بعد مشاهدة الأفلام الـ 23 المتنافسة:
الأسد الذهبي لأفضل فيلم، "كائنات مسكينة"، إخراج يورغوس لانثيموس (إنتاج بريطاني-أميركي-إيرلندي)،
الأسد الفضي – جائزة لجنة التحكيم الكبرى لفيلم "الشر غير موجود" للمخرج ريوسوكي هاماغوتشي (اليابان)،
الأسد الفضي لأفضل إخراج لماتيو غارّوني عن فيلم "أنا القبطان" (إيطاليا، بلجيكا)،
"كأس فولبي" لأفضل أداء نسائي للممثلة كايلي سبايني لدورها في فيلم "بريسيلا" للمخرجة صوفيا كوبولا (الولايات المتحدة، إيطاليا)،
كأس فولبي لأفضل أداء ذكوري للممثل بيتر سارسغارد لدوره في فيلم "ذاكرة" للمخرج ميكيل فرانكو (المكسيك، الولايات المتحدة)،
جائزة أفضل سيناريو لغولييمو كالديرون وبابلو لارين عن فيلم "الكونت" للمخرج بابلو لارين (تشيلي)،
جائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم "الحدود الخضراء" من إخراج أنييسكا هولاند (بولندا، جمهورية التشيك، فرنسا، بلجيكا)، وأخيرا، جائزة مارتشيللو ماستروياني الخاصة بالممثلين الناشئين للسنغالي سعيدو سار لأدائه المميز في فيلم "أنا القبطان" للمخرج ماتيو غارّوني (إيطاليا).
من الجدير بالذكر أيضا، أن المخرجة الإيطالية ليليانا كافاني التي حازت جائزة الأسد الذهبي عن مجمل أعمالها، وصلت إلى مهرجان البندقية لسبب مزدوج، استلام الجائزة وعرض فيلمها الجديد "نظام الزمن"، خارج المنافسة، الذي يستند بشكل فضفاض إلى كتاب يحمل الاسم نفسه للفيزيائي المعروف كارلو روفيللي. تقول بهذا الصدد: ذهبت لأتلقّى دروسا في الفيزياء من روفيللي الذي يكتب كتبا يصعب فهمها، لكنني أوصي الجميع بقراءتها". مشروع جريء ويبدو أن ليليانا كافاني تريد من ورائه استعادة فكرة السينما التي لم تعد اليوم تتمتع بالكثير من حق المواطنة. يفاجئ خبر كويكب عملاق يهدد بالسقوط على الأرض مجموعة من الأصدقاء المجتمعين للاحتفال بعيد ميلاد أحدهم، ويدفع الخوف من النهاية الوشيكة الجميع إلى اعتراف أخير محتمل. "لقد أخذت ظلالنا وأبرزتها للضوء"، كما صرحت شارلوت رامبلينغ، إحدى بطلات الفيلم.