وعلى الرغم من أن علوم الفلك والفضاء بلغت مرحلة متقدّمة في الوقت الراهن، وأماطت اللثام عن الكثير من الأسئلة والظواهر الكونية، غير أن ثمة دائما مجهولا يغري بالبحث والتقصي ومعرفة المزيد في شأن أسرار الفضاء التي لا تنتهي، ولعل أحدث ما تحقق في هذا الحقل هو الخبر الذي تداولته، أخيرا، وكالات الأنباء العالمية حول انضمام الهند إلى ما يمكن تسميته بـ"النادي الفضائي"، فقد هبطت المركبة الهندية تشاندرايان-3 (تعني مركبة القمر) غير المأهولة على سطح القمر، في 23 أغسطس/آب، الأمر الذي وصفه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والكثير من المحللين، بأنه "يوم تاريخي" باعتباره أحدث انجازات الهند العلمية.
تأتي هذه المحاولة الجديدة للبرنامج الفضائي الهندي الذي يشهد ازدهارا، بعد أربع سنوات على محاولة هندية مماثلة لكنها باءت بالفشل، كما أنها تأتي بعد أيام قليلة على تحطم المسبار "لونا-25" وهو الأول الذي ترسله روسيا إلى القمر منذ العام 1976، وهذا ما يفسّر الاحتفاء الهندي الواسع بهذا الحدث الذي أوجد له مكانة ضمن "قائمة الكبار" في مجال "غزو الفضاء" التي تضم ثلاث دول فقط هي الولايات المتحدة وروسيا والصين.
تلسكوب جيمس ويب
قبل هذا الإنجاز الهندي الجديد، كان الحدث الأبرز في مجال ارتياد الفضاء هو ما حققته وكالة "ناسا" الأميركية بالتعاون مع وكالتي الفضاء الكندية والأوروبية عبر إرسال التلسكوب العملاق جيمس ويب إلى الفضاء السحيق، وهو الموضوع الذي يتناوله جزء جديد من السلسلة الوثائقية "المجهول" بعنوان "آلة الزمن الكونية" المعروض على منصة "نتفليكس".
يستعيد هذا الوثائقي على مدى أكثر من ساعة التحضيرات التي سبقت إطلاق التلسكوب، ويكشف ما جرى في الكواليس من انتظار وقلق واندفاع وترقب، ويتابع جهود فريق من المهندسين والعلماء شاركوا في المشروع، وتأثير ذلك على حياتهم اليومية وعائلاتهم، وكيف أن الإصرار على نجاح المشروع أصبح هاجسا لهم، إذ يقدم بعض هؤلاء شهادات عما كان يعتمل في نفوسهم وهم يعملون في هذا التلسكوب الذي يعدّ أحد أكثر المشاريع الطموحة في كشف ألغاز الكون، ووصف بـ"المعجزة التكنولوجية".
للوهلة الأولى قد يبدو الحدث عاديا، فهو مجرد إرسال تلسكوب جديد إلى الفضاء، بعدما أرسلت تلسكوبات عدة إلى الفضاء في سنوات سابقة، لكن هذا الوثائقي يثبت أن الأمر لا يمكن اختزاله على هذا النحو بل ثمة تفاصيل وأرقام ووقائع تجعل من هذا الإنجاز حدثا فريدا ومحطة استثنائية.
بعيدا من المعطيات العلمية البحتة التي قد تكون غير مفهومة، يمكن الحديث عن تفاصيل أخرى تكشف أهمية تلسكوب جيمس ويب الذي استغرق العمل فيه نحو 30 عاما لبناء أكثر الأجهزة الإلكترونية حداثة وتطورا، وشمل ذلك عشرات التجارب والاختبارات من أجل اكتشاف نقاط الضعف وتقليص نسبة الخطأ إلى الصفر، وإبعاد جميع السيناريوهات التي قد تفشل المهمة التي كان الكونغرس قد هدّد بتوقيفها بعدما بلغت موازنته أضعاف ما كان متوقعا، علما أن سيناريو الفشل، وعلى الرغم من كل تلك الجهود، كان احتمالا واردا، حتى أن الفريق المشرف على التلسكوب كان قد أعدّ مسبقا، خطابين، أحدهما سيلقى في حال نجحت المهمة (وهو ما حصل فعليا)، والآخر خصّص في حال الفشل، وهذا الخطاب الأخير، الذي ينقل الوثائقي فقرات منه، بدا مفعما بمفردات الخيبة والانكسار والألم، مع الإصرار على تجاوز الكبوة والنهوض من جديد.
يكشف الوثائقي أن التكلفة النهائية لهذا المشروع العملاق بلغت 10 مليارات دولار، مما يعني أن تلسكوب جيمس ويب، الذي استمد اسمه من اسم أحد مديري وكالة "ناسا" في ستينات القرن الماضي، هو أغلى قطعة إلكترونية هندسية، على الإطلاق، في عالم التكنولوجيا.
بدأ العمل على تطوير هذا التلسكوب في العام 1996 وكان مخططا له الإطلاق في العام 2007 وبموازنة مبدئية قدّرت بنحو نصف مليون دولار أميركي، لكن المشروع تعرَّض للعديد من التأجيلات وخضع لعملية إعادة تصميم كبيرة في سنة 2005 مع ما يعني ذلك من زيادة في التكاليف، وانتهى بناؤه في 2016 ليبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة تمثّلت في الاختبارات المكثفة.
بدا لافتا أن مواعيد الإطلاق تأجّلت منذ 2018 مرات عدّة لأسباب مختلفة من بينها جائحة كوفيد19، لينطلق التلسكوب أخيرا إلى الفضاء في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، وزوّد ما يكفي من الوقود ليواصل مهمته 20 عاما.
ووفقا لهذا الوثائقي، الذي يرصد مراحل بناء "آلة الزمن الكونية"، فإن إحدى المهام الرئيسة لتلسكوب جيمس ويب تتمثّل في استكشاف العصور المبكرة للكون، ودراسة الكواكب الخارجية الواقعة خارج المجموعة الشمسية بحثا عن كوكب مشابه للأرض، يصلح للحياة، ويُفترض أن يساعد كذلك في فهم تكوين النجوم ودورة حياتها بشكل أفضل، وكلّ ذلك اعتمادا على نظريات علمية معقدة، واستنادا إلى ما تحقّق في مجال علوم الفضاء، حتى اللحظة.
بالمقارنة مع تلسكوب "هابل"، مثلا، الذي أطلقته "ناسا" في 1990 واعتبر، آنذاك، واحدا من أهم التلسكوبات الفضائية، حيث قدم صورا وبيانات ثرية وساهم في توسيع فهمنا للكون وتطوره، فإن تلسكوب جيمس ويب صُمِّم ليكون أكثر حساسية ودقة من "هابل" بـ 100 ضعف.
من المعروف أن تلسكوب "هابل" يقع في مدار حول الأرض على مسافة تقدر بنحو 545 كيلومترا، أما "جيمس ويب" فقد توجه إلى نقطة على بعد مليون ونصف مليون كيلومتر، وبالتحديد إلى نقطة تسمّى في علوم الفضاء، "لاغرانج" الثانية.