يكاد يكون وجود المملكة العربية السعودية ضمن مجموعة العشرين النقطة المضيئة الوحيدة في مسيرة المجموعة المتعثرة، وهي الدولة الماضية في رؤيتها الحازمة والملتزمة قولا وفعلا، والحريصة على المصالح المشتركة في معظم المحافل والتكتلات الدولية. وما مشروع الممر الاقتصادي الجديد الذي أعلن في قمة العشرين أمس إلا خير دليل على ذلك، وهو لم يكن ليولد لولا مبادرة ولي العهد السعودي، رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان.
لكن لم يمر شهر على انعقاد قمة "بريكس" في أواخر أغسطس/آب الماضي في جنوب أفريقيا، التي تميزت بشحن النفوس ضد قوى الغرب ورص الصفوف للحد من هيمنته والدعوة إلى ضم دول جديدة إلى المجموعة للهدف نفسه، حتى رأينا هذه الدول بقادتها أو من يمثلهم يجلسون حول الطاولة نفسها مع دول الغرب وغيرها من الدول التي تؤلف مجموعة العشرين، في سعي للتوصل إلى حلول عملية لمعضلات الاقتصاد العالمي القائمة.
ربما نجحت المجموعة التي توصف بأنها "المنتدى الأول للتعاون الاقتصادي الدولي" في إرساء الانطباع الإيجابي لحلحة الأزمات الكبرى بعد قمتها عام 2008، وذلك على وقع استجابتها السريعة والجماعية للأزمة المالية العالمية، حيث بدا ظهورها كملتقى لتنسيق السياسات الدولية وكأنه الجانب المشرق من تلك الفوضى آنذاك، لكن الخصومات اللاحقة أثرت على دورها الاقتصادي.
خصومة البيت الواحد
وفي حين أن مجموعة العشرين لم تتوان عن إصدار البيانات المتألقة للاعتراف بوجود تحديات عالمية، فقد بدا لاحقا أنها متعثرة في تقديم حلول جذرية لهذه التحديات. وهي وسعت أجندة لقاءاتها السنوية إلى أبعد من الاقتصاد، إذ لا يمكن تجاهل حقيقة أن إدارة الأخطار ذات الطبيعة غير الاقتصادية، مثل التوترات الجيوسياسية والهجرة والإرهاب وتغير المناخ وتطور الذكاء الاصطناعي غير المنضبط، أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى لاستقرار الاقتصاد العالمي.
وشكلت جائحة كوفيد-19 عام 2020 اختبار ضغط كبيراً للعولمة، وللتعاون الدولي، ولتنسيق الاستجابات العالمية، في مناخ من عدم الثقة لم يغب عن دول مجموعة العشرين، التي كغيرها من الدول، اشتدت لديها النزعات القومية الاقتصادية في حينه، وإلى الآن، والتفتت إلى تسخير قدراتها كافة لإنقاذ شعوبها أولا، على الرغم من ضخها لاحقا أكثر من خمسة تريليونات دولار في الاقتصاد العالمي لمواجهة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والمالية والصحية للوباء، ومبادرتها لتعليق خدمة الديون الواجبة على عشرات الدول لمجموعة العشرين ونادي باريس.
لا يمكن تجاهل حقيقة أن إدارة الأخطار ذات الطبيعة غير الاقتصادية، مثل التوترات الجيوسياسية والهجرة والإرهاب وتغير المناخ وتطور الذكاء الاصطناعي غير المنضبط، أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى لاستقرار الاقتصاد العالمي
من الواضح أن السياسة هي الرابح دائما، وتتداخل مع كل القضايا لتحلها أو تفسدها، وليست قمة العشرين هذه السنة بمنأى من ذلك، فها هما قائدا دولتين مثل الصين وروسيا يغيبان عن الحضور لأسباب سياسية في مقدمها موقف دول المجموعة غير الموحد إزاء حرب روسيا على أوكرانيا، والتهم التي تكال لروسيا وانهمار العقوبات عليها، أضف إليها قرارها المقلق وقف العمل باتفاق الحبوب وقصف المرافئ الأوكرانية وتعريض الأمن الغذائي العالمي للخطر.
في مقابل ذلك، لا تغرب عن البال عدم رغبة الصين في المساهمة بسطوع نجم الهند التي تروج لنفسها كقوة عالمية صاعدة، ولا العلاقات المتوترة بين الصين والولايات المتحدة، التي ظاهرها اقتصادي في ظل القيود التجارية والتقنية التي تضعها واشنطن، فيما خلفياتها سياسية تدفع إلى حد نشوب حرب بين الدولتين.
أما اقتصاديا، فلا شك أن لمجموعة العشرين ثقلها الهائل، منهم من يعتبرها جديرة بتمثيل دول الأرض كونها تستحوذ على نحو 80 في المئة من الناتج العالمي، في مقابل 45 في المئة فقط لمجموعة السبع، كما تستحوذ على ثلاثة أرباع التجارة العالمية، وأكثر من ثلثي سكان العالم، فيما ينفي آخرون ذلك بحجة أنها تستثني 173 دولة ليس لها أي صوت أو دور على صعيد المبادرة والقرار.
وهذا يفترض البحث مجددا بدورها بعد نحو ربع قرن من تأسيسها، في حين لا تزال هناك دول على فقرها وأخرى ازدادت فقرا ومعاناة نتيجة سوء إدارة الدول الكبرى المؤسِّسة لمجموعة العشرين، مع بعض الاستثناءات، واستغلالها الشعوب الضعيفة والتخبط الاقتصادي والمالي العالمي الذي أفرزته ممارساتها وصراعاتها على مدى سنوات.
تملك مجموعة العشرين كل القدرات للعمل على الالتقاء في نهج تنموي عالمي، وللمساهمة من خلال جهودها الفاعلة وخبراتها، في الحؤول دون الأسوأ اقتصاديا. في هذا المعنى، ينبغي عدم انتظار حدوث دورات انكماش اقتصادي خطيرة تهدد بالانهيار المالي العالمي، لنتوقع من حكومات مجموعة العشرين حشد قواها وتنسيق جهودها لإشهار أدواتها المالية والنقدية تجنبا الكارثة.
تملك مجموعة العشرين كل القدرات للعمل على الالتقاء في نهج تنموي عالمي، وللمساهمة من خلال جهودها الفاعلة وخبراتها، في الحؤول دون الأسوأ اقتصاديا. في هذا المعنى، ينبغي عدم انتظار حدوث دورات انكماش اقتصادي خطيرة تهدد بالانهيار المالي العالمي
تاريخ قمم المجموعة محفوف بالقضايا الخلافية، بسبب الخطوط الحمراء المتبادلة، لا سيما في إصلاح المؤسسات الدولية كمنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين، وموضوع "التعددية" أو "النظام القائم على القواعد" في التجارة وهي مسائل يتحفظ عنها الأميركيون، قبل انتزاع اعتراف دول المجموعة في قمة هامبورغ بأهمية المعاملة بالمثل وتكافؤ الفرص في العلاقات التجارية والاستثمارية.
نجاح ومصالح متضاربة
يشهد لمجموعة العشرين دورها الفاعل في دعم تطوير البنى التحتية في العديد من الدول النامية من خلال دعوة المنظمات والبنوك المتعددة الأطراف، منها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي، إلى تعديل إجراءاتها وحوافزها لتمويل مشاريع مماثلة ووضع أولوياتها في هذا الشأن. كذلك، نجحت مجموعة العشرين في وضع خطة عمل لتعزيز الأمن الغذائي، وأنشأت نظاما عالميا لرصد مخزونات الأغذية في العالم، إلا أن الواقع يبقى مغايرا لهذه النجاحات مع اشتداد الأزمات المالية والغذائية بسبب الحروب خصوصا.
نحن أمام عملاق عالمي تكبله المصالح المتضاربة ويحتاج الى تطوير بفعل الأزمات المتراكمة. فمجموعة العشرين تكتلٌ يعتبر القمة السنوية فرصة للتسويق ونشر الاعلانات كما فعل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في بلاده طوال الشهر المنصرم، إلا أن ما ستنتهي اليه الخلافات الجيوسياسية والاقتصادية الأميركية-الصينية، هو ما سيحكم بوصلة مجموعة العشرين وغيرها من التكتلات مستقبلا مهما اجتهدت بهارات (الهند).