رحلت الفنّانة التشكيلية السورية- الكردية سمر دريعي يوم الخميس في نهاية شهر أغسطس/آب الماضي بمدينة مونشغلادباخ الألمانية بعد غيبوبة عَقبَتْ محنة مرضية استطالت سنة ونيّفا، وهي من مواليد حلب سنة 1977، نذرت معظم حياتها للفن التشكيلي ودراسته في بوخارست الرومانية.
من الصادم أن تكون وعكتها الصحية المفاجئة أعقبت فترة وجيزة لحصولها على درجة الدكتوراه في تاريخ الفنّ (النقد الفنّي الفلسفي) ببوخارست، ممنيّة النفس بأن تتفرّغ لأعمالها التشكيلية الجديدة المنذورة لأشكال جمالية غير مسبوقة في منجزها الفنّي، وتجريب أساليب اختبرتها لاحقا في ممارستها النوعية أكاديميّا وميدانيّا.
بركان من سديم الألوان وغابة الموسيقى هي لوحات طفلة ربيع حلب، نبيّة حزن عامودا، كاهنة حديقة "بارك بوخارست": سمر دريعي.
سمر تشبه ثقبا مضافا إلى ناي أبيها الفنّان المتعدّد عبد الرحمن دريعي، عازف القصب الذي طبّقتْ أنغامه آفاق النهر، والنحّات الذي أنطق بإزميل الدهشة حجرَ الصمت فاستنبت من العدم الصلد وجوها هلاميةَ الأشكال، وحده الألم الإنسانيّ ما يوحّد بين انشطاراتها المفجعة، وكذلك كرسّام شهير لدى مجايليه وتلامذته ببورتريهاته المنجزة بالفحم، ومجملها وجوه مشروخة بلوْذعيّة الوجود والواقع المزمن.
من مشغل الفنّان المتعدّد عبد الرحمن دريعي انطلقت سمر مهرة جامحة نحو أقاص مجهولة أحدثت فيها خريطتها اللونية الخاصّة هي الأخرى.
تدرّجت على سلّمها الفنّيّ المجبول من ألف شجرة وشجرة، صعودا سلسا وأنيقا من جماليات استكناه الجسد الأنثويّ إلى جماليات الطبيعة، إلى الشعريّ والتعبيريّ والرمزيّ والسورياليّ والتجريديّ... ثمّ نذرتْ أسلوبها الخلاسيّ إلى كونيّة بصريّة يتطابق فيها الشكل السديميّ/ صنو بلاغة الانفجار الكونيّ، مع الكارثة الإنسانيّة، وبالذات مضاعفات الحرب الوخيمة، لا الحرب السوريّة الراهنة وحسب، بل مجمل الحروب الشامية، المتوسّطيّة.
كرّستْ حياتها للمرسم ملاذا، تخفّفا من ثقل الألم المتكالب عليها، محاولة الخلاص من سطوة القيود بالرهان على اللوحة كحيّز لانهائيّ لتحليقها مثل عصفورة الشمس الصادحة في أغنية فيروز
يمكن إيجاز تجربتها المكثفة بالاستناد إلى ثلاثة أقطاب:
أوّلا: يمّمتْ بنصل اهتمامها شطر الجسد الأنثوي، وتجاسرت على رسم إحداثيات عريه لا من باب معلن أيروتيكيّ سطحيّ قيد مرئيّته كما هو موهوم، ولكن من باب استغوار طبقاته اللامرئية، المضمرة في إرساليات إنسانية زاخمة بما تعنيه ضراوة العزلة من رؤية وجودية، وقسوة النسيان من زاوية تاريخية، وفداحة التشييء من نظرة ذكورية متسلطة، وذروة القتل من منظور ثقافي سائد مبتذل... لافتة البصيرة العمياء إلى التناغم الهارموني بين جسد الأنثى والطبيعة، بين خدوشه النرجسيّة ومضاعفات التحولات التاريخية، بين أمومته والزحف نحو طفولته، بين اشتعال أناقته المبينة وارتداده إلى أفول وصمت ورماد تلعب السلطة البطريركية دور الشرطي القائم على تنظيم مدّه وجزره، ولكن هيهات!
ثانيا: انصرافها إلى جماليات طبيعة سوريا، كوردستان خاصّة، إذ تماهت كيمياء ألوانها بروح زهرة تتطابق مع هيولى أعماقها هي سيرة ربيع حلب، الشام، الأرض إجمالا.
إذ تعود سمر دريعي عودا أبديّا اللوحة تلو اللوحة إلى الطبيعة، فليس مسألة ملاذ كما يبدو للكثيرين علنا، بل ترتحل في غرابة باطنيّة أو تغوص في المناطق المظلمة لنفسها الأمّارة بالغرق، بحثا عن تلك الطفلة التي كانتها، أو الصدَفة المترسّبة في قعر بحيرتها الجوفيّة، محاولة لمسها والظفر بانتشالها فالقة إطباقة جناحيها كيما تحرّر لؤلؤتها من جديد. ما أن يتحقّق لها ذلك، حتى تضيع منها الصدَفة، وتترسّب أكثر إذ يتعكّر مزاج البحيرة، ويستفحل إظلاما. هكذا يتشيطن الوجود ويتغوّل كسماء مساء كارثيّ خلف صباح زهرة لوتس، أو غابة تتثاءب على ضفّتَي نهر، أو اشتباكات لامتناهية لحديقة أورفيوسية، وقسْ على ذلك من استيهامات.
ثالثا: عندما تنفلت من كهوف المهاوي الجارفة تلك، يأتي مقام البورتريه إذ يطفو الوجه فوق سطح المياه ليصطدم بصخرة السماء الواطئة، وتلك هي الضفة الثالثة من تجربتها الفنّية المكثفة، ولكن على مقاس رحلة دائرية أشبه بفلسفة الأفعى التي تعضّ على ذيلها.
معظم بورتريهات الوجوه غائرة الألم، ممعنة في أثر الحرب وفداحتها، ولا يخرج عن هذا المدار المأسويّ صنف البورتريهات الأخرى، التي تفصح إشاريّا وتشظيّا عن تغوّلات القلق الوجوديّ، اللااطمئنان المزمن، الفزع الهائل، حفريات إبرة الألم في العظم، انشطارات الذات في محفل اليومي الزائف، والخسارات المهولة المستمرة التي يتفاقم معها تكدّس الخيبات في أقبية الداخل.
بورتريهات سمر دريعي بالفحم، ما أن تصادفها، حتى تندمغ بمخيّلتك وتتقدمك في السراديب المفضية إلى خرائب المدن وأنقاضها، المدن الرازحة تحت ويلات الحرب والموت والفزع، كما لو يتعلّق الأمر بقدر تاريخيّ أسود لا ينفكّ يتلطّف حتّى يتضاعف سعاره ويتفاقم.
ما رسمتْ سوى سيرة وجهها عنوانا لمأساة يتطابق فيها الذاتي بالجماعي، بدءا بأبيها وأمها ومقربيها ومواطنيها وانتهاء بصيغة الجمع السوري، الإنساني، الكوني.
ولأنّ سمر دريعي مجبولة من الموسيقى ومنذورة لها، فلا بدّ من التنويه بحقيقة صوتها الزمردي غناءً، إذ أقليّة من يعلمون بموهبتها الغنائيّة وأنا من صفوة الشاهدين ممّن شدهوا بحنجرتها الفاتنة الشذب وشدوها الفوّاح بالأنهار والأدغال.
على هذا النحو كرّستْ حياتها للمرسم ملاذا، تخفّفا من ثقل الألم المتكالب عليها، محاولة الخلاص من سطوة القيود بالرهان على اللوحة كحيّز لانهائيّ لتحليقها مثل عصفورة الشمس الصادحة في أغنية فيروز الجليلة.