قصة "سرسق" البيروتي... ثروة تبدّدت ومتحف شاهد على التحوّلاتhttps://www.majalla.com/node/299316/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%B3%D8%B1%D8%B3%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88%D8%AA%D9%8A-%D8%AB%D8%B1%D9%88%D8%A9-%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D9%91%D8%AF%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%AA%D8%AD%D9%81-%D8%B4%D8%A7%D9%87%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%91%D9%84%D8%A7%D8%AA
بيروت: استبَقَت إدارة متحف سرسق ذكرى انفجار مرفأ بيروت السنوية الثالثة في 4 أغسطس/آب الماضي، فأنجزت أعمال ترميمه وتأهيله وافتتحته بعد 3 سنوات من إقفاله. فعصفُ الانفجار الكبير كان قد "طمر عقودا من العمل" والنشاط في المتحف الدائم في مبناه التراثي على تلة الأشرفية المطلة على وسط بيروت ومرفئها الذي أحدث انفجاره في 4 أغسطس/آب 2020 أضرارا بالغة فيه: حطم نوافذه وأبوابه كلها في طبقاته الثلاث، صدّع بعض جدرانه. ومزّق أعمالا فنية كثيرة من مقتنياته. وترك باب القبو المقاوم للحريق منغرزاً في سقف طبقته السفلية المتصدع، ومعلّقا بطرفها طوال سنة، كطائرة ورقية علقت بشجرة.
"مؤسسة ألِف" كانت وضعت خطة طارئة تهدف إلى تمويل تدعيم وحماية وإعادة تأهيل ما دمّره الانفجار من تراث بيروت الثقافي، الذي يعدّ "متحف سرسق للفن الحديث والمعاصر" من معالمه البارزة، بل الأبرز. فهو مبنىً تراثي مميز بقيمته المعمارية على النمط "الفينيسي" (نسبة إلى مدينة فينيسيا، أي البندقية الإيطالية) والعثماني. ويقع على مسافة أقل من 800 متر من المرفأ الذي ألحق انفجاره أضرارا جسيمة في هيكل المبنى.
زارت "المجلة" المتحف بعد افتتاحه، فتجولت في قاعاته الكثيرة المتنوعة بمقتنياتها ومعارضها الفنية الدائمة، والأخرى الجديدة في فن التجهيز. ومنها الأبرز "إيجيكتا" السمعي- البصري للفنان زاد ملتقى. وهو تجهيز يستوحي انفجار المرفأ، ويجسّده بآلاف الصور الرقمية لأعمال فنية من مقتنيات المتحف التي تتدفق صورها بأشكال متنوّعة على جدران قاعته السفلية الكبرى.
يستضيف "متحف سرسق" بعد ترميمه عملا تجهيزيا يستوحي انفجار المرفأ، ويجسّده بآلاف الصور الرقمية لأعمال فنية من مقتنيات المتحف التي تتدفق صورها بأشكال متنوّعة على جدران قاعته السفلية الكبرى
يصاحب تدفق الصور عمل موسيقي يستوحي صوت الانفجار مجزأ ومختنقا بأصدائه وتردّداته كتناثر الزجاج المتشظي على نحو بطيء في شوارع بيروت عقب الدوي الزلزالي الكبير، ومقذوفاته شبه البركانية الضوئية التي تتدفّق كالماء والحمم على شاشات الجدران الكبرى المنصوبة في القاعة الفسيحة شبه المظلمة. وقد استوحى زاد ملتقى هذه الإيقاعات من مصدرين:
- الأول عمل موسيقي باروكي من القرن السابع عشر، وضعه المؤلف الفرنسي أنطوان شاربنتييه في عنوان "دروس الظلمات".
- الثاني عمل في عنوان "تمارين على الأضواء" ألفه ملتقى في العام 2017، وينقل أصداء الرنين المرتد على زجاج نوافذ الكنائس الملوّنة، والذي يبعث رجاء يواسي حالة من التطهير ويستدعيها.
ويدعو الفنان الزائرين إلى كتابة مناشداتهم على جدران القاعة الخارجية، لتكون فعلا أدائيا لطقس علاجي جمعي.
الجهل... والأريستوقراطية
من المعارض الدائمة في المتحف معرض في عنوان "أنا جاهل! معرض الخريف والمتن الفني الوطني". ويحوي إرث "معرض الخريف للفن التشكيلي في بيروت" منذ افتتاح "متحف سرسق" في العام 1961، عندما تحول قصر نقولا إبراهيم سرسق أول متحف عام ووحيد للفن الحديث والمعاصر في بيروت، إلى يومنا هذا.
المعروف أن "معرض الخريف" البيروتي كان له دور رائد ومرجعي في صوغ حركة الفن التشكيلي اللبناني. أما عبارة "أنا جاهل" في عنوان المعرض الجديد والاستعادي اليوم، فمستقاة من مقالة كتبها في العام 1964 المسرحي الراحل جلال خوري (1933- 2017) تجسيدا "لاحتجاجه اللاذع آنذاك على تحيّز المتحف واستغراقه في النخبوية، توقعا واستباقا للأزمات التي أصابت لبنان".
من لوحات هذا المعرض الدائم عمل للفنانة التشكيلية سيسي سرسق عنوانه "عارية زرقاء" شاركت به في "معرض الخريف" سنة 1972. وقد تجسّد سيرة حياة هذه الفنانة مرآة مزدوجة لقصة المتحف الذي يحمل اسم عائلتها، ولقصة العائلة الكوزموبوليتية المعولمة الثراء منذ القرن التاسع عشر.
ولدت سيسي سرسق سنة 1923 في يوغوسلافيا، وتوفيت سنة 2015 في كرواتيا. وهي يوغوسلافية وتدعى جوستينا تاماسيو، قبل زواجها سنة 1947 من اللبناني حبيب سرسق، سليل الجيل الثالث من العائلة المعولمة الثراء والأعمال والإقامة. ومن بلادها انتقلت جوستينا التي اختصرت اسمها بسيسي، إلى العيش مع زوجها في قصر الجزيرة الملكي الذي كانت تملكه عائلته في القاهرة، قبل أن تخسره جراء نظام التأميم الناصري في مصر. لذا انتقلت وزوجها إلى بيروت في مطالع الخمسينات، وظلت مقيمة فيها حتى بدايات حروب لبنان الأهلية التي أعادتها سنة 1978 إلى بلدها يوغوسلافيا، وتحديدا مدينة سبلت الكرواتية.
وكانت جوستينا تلقت دروسا في الرسم في بلغراد، قبل التحاقها بأكاديمية الفنون في أنقرة، حيث تدربت في محترفات التركي نور الدين إرجوفين وتورغت زيم. والأرجح أنها التقت حبيب سرسق في إسطنبول، حيث كان للعائلة فرع قديم منذ أواخر عهد الأمبراطورية العثمانية.
أساطير... ووقائع
لكن ما هي قصة عائلة سرسق ومتحفها الفني في بيروت؟
روى غبريال ريس وزوجته - أمه وزوجته من آل سرسق، وهو صاحب شركة صناعة مصاعد كهربائية للأبنية - قصة ثراء عائلة سرسق الأرثوذكسية، فأرّخ بدايات انتقالها من طبقة العامة إلى حيازة المكانة والثروة بالحرب بين السلطنة العثمانية وروسيا القيصرية في أواخر القرن الثامن عشر. وذلك عندما غادر المدعو متري سرسق موطن أهله في البربارة الواقعة على التخوم بين جبل لبنان وشماله، إلى بيروت، وتزوج فيها امرأة بيروتية أرثوذكسية من آل طراد، إحدى عائلات المدينة السبع، صاحبة النفوذ والمكانة والثراء.
الرقم سبعة، غالبا ما يتردّد بوصفه عدد العائلات التأسيسية التي كانت تتوارث المكانات في المدن التقليدية القديمة، التي كانت تحوطها الأسوار، وبواباتها السبع أيضا، في تلك الأزمنة. ثم إن هذا الرقم، هو الشائع والمتداول في أساطير الخلق والبدء والتكوين وروايتها.
كانت امرأة عائلة طراد البيروتية، الثرية والنافذة، الجسر الذي عبر عليه متري سرسق، بالمصاهرة، من الريف والمرتبة العامية، إلى المدينة والوجاهة والمكانة فيها. وبعد إنجابه من زوجته أبناءً ستة، هاجر بكرهم، لطف الله، إلى بريطانيا، فأثرى هناك. وفي الأثناء كان إخوته، شأن عائلات مسيحية كثيرة في تلك الحقبة، قد توزعوا في مهاجر كثيرة: مصر، تركيا، فلسطين، ولبنان. وهذه من "ملاحم" اللبنانيين، ومن عناصر انبعاث صورة بلدهم الحديثة منذ القرن التاسع عشر، حسب الشعار اللبناني الشهير: "لبنان بجناحيه، المقيم والمغترب". وهذا شعار يؤكد متانة الروابط العائلية الذي يتخذ طابعا "وطنيا" رومنطيقيا في الفنون الفولكلورية. وبما أن المتانة هذه تأبى أن يظل الثراء فرديا، أخذ لطف الله يرسل الى إخوته بضائع من بريطانيا، كي يتاجروا بها في تركيا ومصر وفلسطين ولبنان، إبان حروب السلطنة العثمانية مع روسيا القيصرية. وهكذا تدخل الحرب، إلى جانب الهجرة والمصاهرة، عنصرا فاعلا في الثراء.
بلغ عدد أفراد الجيل الثالث من عائلة سرسق ستين شخصا توزعت عليهم الثروة العائلية الضخمة، فيما كان بعضهم يوسّع انتشاره إلى إيطاليا وفرنسا، إقامة وعملاً وزواجا. لكن رابط آل سرسق العائلي بدأ يتمزّق ويختفي في هذا الجيل
على خلاف قصة الرقم 7 الأسطوري في ثباته عددا للعائلات التأسيسية النافذة والمرموقة في المدن التقليدية القديمة، قلب الحراك الاجتماعي في الأزمنة الجديدة أو المعاصرة (بالهجرة وبالشبكات العائلية التجارية) ثبات المكانات العائلية المتقادم، الذي كان حراكه البطيء يقتصر على المصاهرة وحدها. وربما علينا أن نضيف التعليم في هذا السياق، بوصفه بابا واسعا للحراك الاجتماعي الكبير، إلى جانب الهجرة والأعمال التجارية اللذين سبقا التعليم الذي جاء دوره متأخرا زمنا في عائلة سرسق، على ما يبدو.
آل سرسق وآل روتشيلد
المنعطف الثاني في مسار عولمة ثروة آل سرسق، حققته الحرب الأهلية بين الدروز والنصارى الموارنة في جبل لبنان (1840- 1860) وتمادي انهيار السلطنة العثمانية، وصيرورة بيروت عاصمة ولاية عثمانية سنة 1888، بعد انفتاحها وتوسعها خارج أسوارها، ازدهارها وتكاثر المهاجرين المسيحيين إليها من بلدان المشرق، وحلول البعثات التبشيرية والتعليمية الغربية وسفراء الدول الأوروبية الكبرى فيها. وفي خضم هذه التحولات تأسس "بنك سرسق" في بيروت. ولما أرغمت السلطات العثمانية والدول الكبرى الدروز على دفع "تعويضات" مالية نتيجة المجازر التي ارتكبوها بخصومهم الموارنة، أصدرت إسطنبول "سندات مالية" مؤجلة، ومنحتها للموارنة على أن يسدّد الدروز قيمتها لاحقاً. وبما أن حاملي تلك السندات كانوا يشكّون في إمكان تحصيلها من خزينة السلطنة التي يعادونها والمأزومة ماليا، جعلوا يبيعونها من "بنك سرسق" بأبخس الأثمان.
وشاءت الظروف ونفوذ آل سرسق في إسطنبول أن يحصّل البنك العائلي قيمة السندات كاملة، ومنها حيازة العائلة مساحات من الأرض الأميرية في سهل البقاع وفلسطين وتركيا ومصر، فيما كان لطف الله سرسق يموّل خزينة الخديوي إسماعيل في القاهرة.
كان أبناء متري سرسق الستة، مؤسسي الثروة العائلية الفاحشة، ويتصدرهم لطف الله. وجعلهم توزّعهم في لندن والقاهرة وإسطنبول وبيروت وفلسطين، سفراء العائلة وثروتها المشرقية والمعولمة بمعايير ذلك الوقت. وكل واحد من هؤلاء الإخوة أنجب نحو 10 أبناء. وإلى أن كثرة الإنجاب من تقاليد ذاك الزمن (نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين)، هي أيضاً قرينة على أن مؤسسي الثروة العصاميين، ظلوا مقيمين على ثقافة سابقة على حيازتها. فأبو علي سليم سلام (1868- 1938) البيروتي السني مثلاً - وهو مؤسس وجاهة آل سلام ومكانتها وثرائها في بيروت، ووالد رئيس الوزراء اللبناني الراحل صائب سلام (1905- 2000) - أنجب ما يزيد على 10 أبناء.
وإذا كان جيل آل سرسق الثاني الذي أسّس الثورة العائلية الكبرى، لا يتجاوز الستة - على اعتبار أن والدهم متري سرسق كان الممهّد الفرد والأول لذاك الثراء، بعد هجرته إلى بيروت وزواجه من امرأة عائلة طراد المرموقة والثرية فيها - فإن عدد أفراد الجيل الثالث من عائلة سرسق بلغ ستين شخصا توزعت عليهم الثروة العائلية الضخمة، فيما كان بعضهم يوسّع انتشاره إلى إيطاليا وفرنسا، إقامة وعملا وزواجا. لكن رابط آل سرسق العائلي بدأ يتمزّق ويختفي في هذا الجيل.
وحسب غبريال ريس كانت عائلة سرسق في ثرائها "مثل عائلة روتشيلد". بعض قصورها شيدها جيلها الثاني، فراحت تتزايد في جيلها الثالث على تلة الأشرفية البيروتية، حيث نشأ حي السراسقة وقصوره الكثيرة. واتسع تشييد القصور وترفها إلى بلدة صوفر في جبل لبنان، موئل المصطافين من النخبة المدنية العربية في دمشق والقاهرة وبغداد وفلسطين. فموسى سرسق، وهو من جيل العائلة الثاني، شيد قصره الأضخم في الأشرفية سنة 1860. ابنه ألفرد ورث القصر وتزوج الدونا ماريا الإيطالية، وشيد باسمها قصرا في صوفر، غير بعيد من "فندق صوفر الكبير" الذي شيّده لنخبة المصطافين العرب في مطالع القرن العشرين، وظل يستقبلهم حتى أحرقته نيران حروب لبنان (1975- 1990). ومبنى الفندق مع قصر الدونا ماريا، لا يزالان حتى اليوم ينتصبان هيكلين متصدّعين. أما قصر حي السراسقة الأضخم في بيروت، فورثته ابنة ألفرد، الليدي إيفون سرسق كوكرن، التي تزوجت من لورد إيرلندي حملت اسم عائلته إلى أن قضت نحبها في القصر الذي صدّعه انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020.
مضيف ملوك ورؤساء
ثروة السراسقة كانت "دولية أو عالمية"، قال غبريال ريس. وقالت زوجته متحسّرة شاكية: "الجيل الثالث من العائلة انصرف عن العمل ومضاعفة الثروة، إلى التبذير واللهو والتبذل". لكن ريس أضاف: "النساء والقمار والزراعة". ما شأن الزراعة في التبذير؟!- فكرتُ أنا المستمع إلى ريس، وظننت أنه يقصد الإقبال على شراء الأراضي الأميرية في العهد العثماني. لكنه أوضح قائلا: "الأولاد... الأولاد"، مكنيا بالزراعة عن الإكثار من إنجابهم الذي يوزّع الثورة ويبدّدها. وخيّل إليَّ أن ما حمل محدّثي على هذه الكناية، هو حسرته من عدم إنجابه أولادا يورثهم اسمه وثروته. وإما رغبة منه في عدم تكرار سيرة عائلة أمه وزوجته التي راح ستون من أبناء جيلها الثالث يبدّدون ثروتها الهائلة.
لكن ما مصير ثروة ريس؟ - فكرتُ - طالما لن يرثها أحد. أيكون مصيرها شبيها بالمصير الذي اختاره لقصره نقولا إبراهيم سرسق (وهو من جيل العائلة الثالث) المتوفى سنة 1952، بلا زواج ولا إنجاب؟
توفى نقولا إبراهيم سرسق عن 65 سنة في قصره الفخم الكبير، الذي - عشية الحرب العالمية الأولى، عندما كان في أواسط العقد الثالث من عمره - شرع في تشييده لصق قصر والده القديم في حي السراسقة. وبعد حياة عاشها باذخا مترفا وكثير الأسفار، بلا عمل ولا زواج، كتب نقولا في وصيته أنه يهب قصره لمدينة بيروت، شرط تحويله متحفا للفنون الحديثة، ويكون رئيس بلدية المدينة متوليا عليه، وتديره لجنة من الشخصيات البيروتية، بلا مقابل.
ظل القصر مقفلا حتى سنة 1957، واستعمل بموجب مرسوم جمهوري في عهد كميل شمعون الرئاسي (1952- 1958) مراتٍ عدة لاستضافة ملوك ورؤساء زاروا لبنان رسميا. منهم الملك سعود بن عبد العزيز، وملك اليونان، وكثرة من الديبلوماسيين الأجانب. لكن الدكتور لطف الله ملكي (حافظ المتحف بعد افتتاحه الثاني عقب سني حروب لبنان التي أقفلته بين 1975 و1990) أسقط السنوات الخمس بين 1952 و1957 من تاريخ المتحف وجعلها من تاريخ القصر، لأن استخدامه فيها كان "يخالف وصية صاحبه الذي شاءه متحفا للفنون، لا قصرا لاستضافة أهل السياسة والديبلوماسية". فنقولا إبراهيم سرسق كان أتخم قصره باستضافة نخبة لبنان من سياسيين وديبلوماسيين ووجهاء وأهل قلم، وأراد بعد رحيله جعله مرفقا عاما للفن وأهله، حسب غبريال ريس الذي أضاف أن نقولا "جعل قصره مضافة دائمة لمعارفه وأصدقائه، أمثال جبران تويني (والد غسان تويني) والصحافي التائه إسكندر رياشي، وغيرهما من العازبين أمثاله. لذا كانت موائد الغداء والعشاء لا تتوقف في القصر، ولم يكن عدد المدعوين إليها يقلّ عن العشرة في كل مرة".
ترفٌ ممل وخوف
تحوّل القصر متحفا سنة 1961، بعدما بادر رئيس بلدية بيروت أمين بك بيهم سنة 1958 إلى تعيين لجنة مهمتها إنفاذ وصية صاحب القصر. وهكذا بدأ تاريخ "متحف سرسق" عندما استضاف "معرض الخريف الأول للفنون التشكيلية" في خريف 1961، وكان انقضى ما ينوف عن قرن كامل على بلوغ آل سرسق الثراء الفاحش.
عاش نقولا إبراهيم سرسق حياته "متقلّب المزاج والأطوار - قالت زوجة غبريال ريس - ففي مدرسة عينطورة، حيث أمضى سنواته الدراسية، كانت غرابة أطواره ورغبته في اللهو والتميز، تحملانه على صباغة شعره أشقر، فطُرد من المدرسة". أما ريس فأضاف أن نقولا "واحد من السراسقة الستين الذين بدّدوا الثروة العائلية الدولية. ولم يكن لامعا ولا مميزا شأن اثنين من مجايليه: الياس وميشال سرسق اللذان كانا عضوين في أول برلمان عثماني".
العالم الخارجي اليوم في حي السراسقة وشارع سرسق في بيروت، هادئ بسكانه القليلين وقصوره الخمسة شبه المهجورة، سوى متحف سرسق الذي انبعثت فيه الحياة بعد ترميمه وافتتاحه لعموم الزائرين
وروى ريس أن نقولا، ما إن بنى قصره وأقام فيه منفردا، حتى اقتنى سيارة رولز رويس، وأكثر من التنزّه على شاطئ البحر. كان يترجل من السيارة تاركا سائقه يقودها على الطريق متمهلاً، فيما يروح هو يتمشى منفردا. لقد كان يخاف على صحته حدّ التطير، ويحسب ألف حساب لئلا تؤذيه نسمة هواء. وحين كان يريد الصعود إلى صوفر لقضاء أيام في فندقها الكبير الفخم الذي يملكه قريبه، كان يرسل سائق سيارته إليها مع ميزان للحرارة، يقيس به درجتها ومستطلعا حال الطقس فيها. وبناء على هذه المعلومات الدقيقة التي يعود بها السائق من صوفر إلى بيروت، يقرّر نقولا الصعود في سيارته إلى صوفر أو العزوف عنه. أما مأكله ومشربه في قصره، فبلغ به تقيّده بنظام غذائي صارم أنه كان يشرف بنفسه على أعمال الطهي التي يقوم بها طباخه الخاص الذي كان يصطحبه في رحلاته وأسفاره.
وختمت قريبته، زوجة ريس كلامها قائلة: "غير أن هذا كله لم ينفعه في شيء، ولا دفع عنه تجرّع كأس المنية من دون تأجيل عندما بلغ الخامسة والستين من عمره". لكن المرأة سرعان ما سألت زوجها: "ماذا حلّ بسيارته الرولز رويس؟ من أخذها، بعد بقائها مدة طويلة متوقّفة يكسوها الغبار أمام قصره؟". لم تنتظر المرأة جوابا عن سؤالها، وتابعت قائلة: "تصوّر أن من أسست مدرسة زهرة الإحسان الأرثوذكسية العريقة في الأشرفية، يعمل حفيدها في فندق بإحدى عواصم الخليج!". وهي عنت بذلك رجلا من آل سرسق، أرغمه الدهر وتبدّد الثروة على العمل في فندق. إما إيفيت سرسق "المرحومة - قالت زوجة ريس - فقد دفعها عوزها إلى العمل في المسرح والتلفزيون". وتداركت المرأة أخيرا قائلة: "ربما أحسن نقولا بوقفه قصره ليصير متحفا خلّد به اسمه وعائلته".
زمن الشتات والخلود
روى ريس أن "نكبة فلسطين أفقدت العائلة ثروتها في فلسطين. والتأميم الناصري أفقدها ثروتها في مصر. وسراسقة إسطنبول، صاروا أتراكا وتقطعت أواصرهم بالعائلة المنتشرة في عواصم بلاد كثيرة. وهؤلاء إما تزوجوا ولم ينجبوا أكثر من ولد واحد، وإما لم ينجبوا قط، وإما ظلوا بلا زواج". وفي التسعينات من القرن الماضي، كان من يمر في شوارع حي السراسقة في الأشرفية، يشعر أن قصورهم خالية إلا من سكان قليلين يعيشون في الصمت والإضاءة الداخلية... والوحشة.
حين افتتح قصر نقولا ابراهيم سرسق للمرة الأولى كمتحف للفن سنة 1961، كان لبنان يشهد انطلاقة جديدة في العهد الشهابي، فعاش حتى العام 1975 عصره الذهبي في الفنون والصحافة والسياحة والترفيه. وفي بدايات الحروب الأهلية (1975 - 1990) كان متحف سرسق يغلق أبوابه عندما تشتد جولات الحرب. لكن نشاطه خفت وتلاشى، قبل إقفاله أخيرا في الثمانينات، ليفتتح بعدها في منتصف التسعينات، حتى تضرّره بقوة في انفجار المرفأ.
العالم الخارجي اليوم في حي السراسقة وشارع سرسق (طوله 400 م) في بيروت، هادئ بسكانه القليلين وقصوره الخمس شبه المهجورة، سوى متحف سرسق الذي انبعثت فيه الحياة بعد ترميمه وافتتاحه لعموم الزائرين. ولولا المتحف لتضاءل عدد قاصدي الشارع وعابريه.
سكون في الشارع مصدره ثروة عائلية قديمة تبدّدت، وتوزّع بقايا السراسقة في جهات العالم، ولم يبق منها ومنهم في بيروت سوى القصور التي عصمت المكان من الفوضى والصخب والعموم. وربما هو توق نقولا ابراهيم سرسق إلى الخلود، بوصيته تحويل قصره إلى متحف للفن الحديث، خلَّد اسم عائلته، وأدخل الشارع في الحياة الثقافية والعموم، لكن بلا صخب ولا فوضى.