تنقيبات تكشف مكانة الجمل العربي في حضارات العالم القديمhttps://www.majalla.com/node/299311/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%AA%D9%86%D9%82%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D9%83%D8%B4%D9%81-%D9%85%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D9%8A%D9%85
من يتجول في صحارى المملكة العربية السعودية، وحواضرها التاريخية القديمة، تدهشه الرسومات الصخرية العائدة الى قرون عديدة قبل الميلاد وبعده، فهي تنطوي على الكثير الحيوانات البرية والمستأنسة، التي لا يزال الكثير منها يعيش في هذه البلاد، من الفهود والذئاب والثعالب إلى الخيول والوعول. لكن الحيوان الأكثر حضورا في هذه الرسوم هو الجمل العربي ذو السنام الواحد، إذ أن رسوماته تنتشر من أقصى جنوب المملكة إلى أقصى شمالها امتدادا إلى بلاد الشام، وهذا ما يفسّر ارتباط صورة العرب في الجداريات الآشورية والبابلية والإخمينية الفارسية بهذه الراحلة التي لا تزال تحتفظ بمكانتها الخاصة عند العرب حتى يومنا هذا.
قبل استئناس الجمل، أي في فترة العصر البرونزي (من 3200 وحتى 1200 قبل الميلاد)، كانت وسائل نقل البضائع في الحضارتين الأعرق والأقدم في العالم القديم، المصرية والرافدينية، تتم بالطوافات النهرية والقوارب البحرية، وهي وسيلة نقل لم تكن متطوّرة في تلك العصور لتنقل كميات كبيرة، أو تتمتع بمميزات أمان تضمن سرعتها وسلامتها. كما كانت الحمير وسيلة النقل البرية الوحيدة، وهي حيوانات صبورة، لكنها غير قادرة على السير الطويل، ولا تستطيع حمل أوزان ثقيلة. وغالبا ما كانت التجارة البحرية أو النهرية تتعرّض لأخطار الغرق في الماء. لذلك امتاز العصر البرونزي بقلة الموارد، وضعف التجارة الدولية والتواصل الحضاري بين الشرق والغرب.
تذهب دراسات أكاديمية حديثة إلى أن استئناس الجمل العربي هو العامل الأهم في النقلة الحضارية الكبرى خلال "العصر الحديدي" (من 1200 إلى 500 قبل الميلاد) فبواسطته بات زمن الانتقال برا من اليمن والخليج إلى بلاد الشام لا يتجاوز الشهر الواحد، بعدما كان قبل ذلك ضربا من المستحيل
تذهب دراسات أكاديمية حديثة إلى أن استئناس الجمل العربي هو العامل الأهم في النقلة الحضارية الكبرى خلال "العصر الحديدي" (من 1200 إلى 500 قبل الميلاد)، فبواسطته بات زمن الانتقال برا من اليمن والخليج إلى بلاد الشام لا يتجاوز الشهر الواحد، بعدما كان قبل ذلك ضربا من المستحيل، وأصبح نقل البضائع أضعاف أضعاف ما كانت وسائل النقل السابقة تستطيعه، وبذلك ازدهرت حضارة ومدن اليمن القديم، وطوّرت منتوجاتها العطرية التي أغرقت أسواق العالم في ذلك الوقت، من بابل وآشور شرقا، إلى جزر ومدن اليونان والرومان غربا، فنشأ نوع من التقاسم الوظيفي بين الممالك المنتجة للبخور واللبان والمرّ في جنوب الجزيرة العربية، وبين القبائل البدوية التي كانت تذرع الفيافي بإبلها، فنشأت مدن القوافل وازدهرت كمحطات تجارية وأسواق وتدفقت العائدات المالية على الجميع فغدا العرب من أغنى أمم الأرض في تلك الأزمنة.
الجمل العملاق
سادت لسنوات طويلة نظرية المنشأ الأميركي للجمال في الأوساط الأكاديمية والبحثية الغربية، وأنها انتقلت عبر مضيق "بيرينغ" إلى آسيا والصين على وجه التحديد، قبل أن تعبر إلى شمال أفريقيا قبل عشرة آلاف عام أو أكثر، مع نهاية العصر الجليدي الأخير. لكن اكتشافات موقع حوض الكوم في البادية السورية قرب تدمر، أثبتت أصالة وجود الجمل في هذه المنطقة منذ العصور السحيقة، حيث بيّنت مكتشفات البعثة السويسرية وجود بقايا إبل تعود إلى أكثر من 400 ألف سنة. الأكثر إثارة هو العثور على بقايا عظام الجمل العملاق في طبقة تعود إلى "الحقبة الموستيرية" أي في الفترة ما بين 120 ألف عام و80 ألف عام قبل الميلاد.
يقول البروفسور جون ماري لوتانسورر، رئيس الجانب السويسري في البعثة الأثرية السورية السويسرية في منطقة الكوم: "عند العثور على القطعة الأولى لهذا الجمل العملاق اعتقدنا أن الأمر يتعلق بهيكل عظمي لزرافة نظرا لضخامته، لكننا تأكدنا في ما بعد أن الأمر يتعلق بعظام جمل يفوق حجم أكبر الجمال العادية بمرة ونصف مرة أو مرتين".ورأى عالم الآثار السويسري أن "هذا الاكتشاف يعدّ أهم اكتشاف نعثر عليه إذ يتعلّق الأمر بصنف حيواني جديد من فصيلة الجمال، وأن هذا يعني أن هناك مناطق وحقبا زمنية في المنطقة، لم يتم التنقيب فيها وإلا لكنا عثرنا على بقايا هذا الجمل في مناطق أخرى، من المؤكد أنها كانت أساسية ومركزية لتطور الجمال بكل أصنافها".
استئناس الجمل
على الرغم من قدم وجود الجمل في الصحراء العربية، إلا أن استئناسه لم يقع إلا قبل ثلاثة آلاف عام، بحسب نتائج البحوث الآثارية والتاريخية. إذ أن أقدم لوحة تمثّل جملا مستأنسا، عليه شداد وراكب، اكتشفت في موقع تل حلف في الجزيرة الفراتية، وتعود إلى أواخر الألفية الثانية ومطالع الألفية الأولى قبل الميلاد، وهي تمثل تاجرا عربيا. أما أقدم ذكر للجمل فيعود إلى منتصف القرن التاسع قبل الميلاد حين عدّد الملك الآشوري شلمنصر الثالث (حكم من 858-823 ق.م) القوات التي واجهها في معركة قرقر، حيث أكّد أن ملك العرب جندب، أو جنديبو بحسب الكتابة الآكادية، كان يقود جيشه المكوّن من مشاة وراكبي جمال.
ثراء فاحش
ارتبط العرب في مخيلة الشعوب المجاورة لهم بالثراء الفاحش والغموض، إذ كانوا ينقلون البضائع الثمينة على ظهور الجمال، عبر طرق عرفوها جيدا وخبروا أسرارها، فكوّنوا ثروات طائلة جرَّت عليهم حسد جيرانهم الآشوريين. وكان الآشوريون يراقبون غنى العرب الفاحش من بعيد، فيغيرون عليهم ويسطون على قوافلهم القادمة من محطات التوزيع على سواحل الخليج، ومن مدن الجنوب العربي، في اتجاه المناطق المحاذية لمواضع نفوذهم، من الصحراء الممتدة إلى الغرب من بابل إلى تدمر وسط البادية السورية.ولم يكن الآشوريون يكتفون بنهب تجارة العرب، بل كانوا يأخذون الملوك وأبناءهم وأنصابهم رهائن، ولا يفرجون عنهم إلاَّ بدفع أتاوات باهظة.
وتخبرنا حولية تغلات فلاصر الثالث (حكم من 745- 727 ق.م) ذات الرقم(III A) عن نوعية الأتاوات التي كان يتقاضاها ذلك الملك الآشوري من ملكة العرب زبيبي (زبيبة) التي كان شعبها يسيطر على الواحات والمحطات التجارية الممتدة من شمال الخليج إلى دومة الجندل، فحوران وتدمر، وصولا إلى بادية حلب شمالا.
وكانت هذه الأتاوات تتكوّن من "الذهب والفضة والرصاص والحديد وجلود الفيلة والعاج والقماش الملون والكتان والأرجوان الأزرق والأحمر والخشب المستوي وخشب القيف النفيس، وكافة أصناف الخزائن الملكية الثمينة، ونعاج حية صوفها لونه أرجواني أحمر، وطيور السماء ذات الأجنحة الزرقاء، وجياد وبغال وأبقار وقطعان ماشية، وجمال ونوق مع صغارها تسلم سنويا في أشوريا".
ويذكر الملك الآشوري أسرحدون في نص مكتوب عام 676 ق.م، أنه فرض أتاوة على ملك العرب يثع بن حزائيل، "عشرة مانا من الذهب و1000 حجر كريم و50 جملا و100 حزمة من البخور، أضفتها على أتاوة أبيه حزائيل".
حملات بابلية
ومع أن بعض العرب انضووا تحت السيادة الآشورية، إلا أن الغالبية الساحقة منهم لم تفرّط بحريتها، ولا بسيطرتها على أسرار الطريق التجارية في مجاهل الصحراء الممتدّة، وقد حفظ لنا ملكان بابليان من سلالة الكلدانيين أخبارا عن حملتين لهما على شمال الجزيرة العربية، هما نابو كادورو (نبوخذ نصر) ونابو نيد، في محاولة للقبض على أسرار تجارة العرب المربحة، التي كانت تستهلك مبالغ طائلة من خزائن ممالك العالم القديم.
أنشأ عرب تلك العصور شبكة تجارية معقدة، كانت وسيلة اختراقها الوحيدة هي قوافل الجمال، حيث ضمنت لهم هذه الشبكة وقوافلها احتكار بضائع كانت تعدّ استراتيجية، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى
ويبدو أن الفرس حاولوا إخضاع العرب بعد سقوط بابل على يد كورش في العام 539 ق.م، ولكنهم فشلوا في ذلك، وهو ما وثّقه مؤرخ اليونان هيرودوت (484 - 425 ق.م) الذي قال إنهم أخضعوا جميع شعوب المنطقة باستثناء العرب، وتحدّث عن معاهدات واتفاقات عقدوها فيما بينهم. وذكر أن الملك الإخميني أرسل رسلا الى العرب لطلب المرور الآمن إلى مصر عبر أراضيهم، وقبل العرب رجاءه، وتعاهدوا على ذلك. ويلفت هيرودوت إلى أن العرب يحافظون على العهود أكثر من أي أمة أخرى.
مساعدة العرب
يحدّثنا هيرودوت عن شكل مساعدة العرب لملك الفرس. فعندما عاهد الملك العربي رسل قمبيز، ملأ عدة من جلود الجمال بالماء وحمّل كل الجمال التى يملكها وذهب إلى الصحراء هو وقومه في انتظار قدوم الجيش، موضحا أن هذه إحدى القصتين المتداولتين وهي الأوقع.
ثم ينتقل هيرودوت إلى مستوى آخر من القصّ يعكس حالة الأسطرة والغموض التي كانت تحيط بحياة العرب في تلك الأزمنة، فهو في قصة أخرى لشكل المساعدة التي قدموها الى قمبيز، يقول إن نهرا كبيرا فى جزيرة العرب يطلق عليه كوريسكان يصبّ في البحر الأحمر، ويقال إن الملك العربي صنع أنابيب من جلود الثيران وبعض الحيوانات الأخرى لحمل الماء من النهر عبر الصحراء فى تلك الانابيب وإلى صهاريج كان قد حفرها في الصحراء لاستقبال هذا الماء ويقال إن الماء أحضر من ثلاثة أماكن مختلفة عبر أنابيب ثلاثة. لكنه يشكك في صحة هذه القصة ويصفها باللامعقولة، ومع ذلك ينقلها للأمانة التاريخية. كما يصف هيرودوت الطرق المستحيلة للحصول على بضائع بلاد العرب الجنوبية من لبان ومرّ وطيب، وهي صدى لتلك الحالة من الإثارة والغموض، التي اكتنفت حياة العرب وأسلوب حياتهم القاسي والغريب.
شبكة تجارية
أنشأ عرب تلك العصور شبكة تجارية معقدة، كانت وسيلة اختراقها الوحيدة هي قوافل الجمال، حيث ضمنت لهم هذه الشبكة وقوافلها احتكار بضائع كانت تعدّ استراتيجية، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالبخور والمر واللبان كانت تنقل من ممالك اليمن عبر طرق سرّية في عمق الصحراء إلى مدينة كهل (قرية الفاو الحالية)، على الحافة الشمالية الغربية لصحراء الربع الخالي، ومنها إلى أدوماثو (دومة الجندل- الجوف الحالية)، ثم إلى بصرى فتدمر فأنطاكيا وصولا إلى سواحل المتوسط وروما. أو إلى تيماء فالبتراء فغزة فعالم البحر الأبيض المتوسط، وكل ذلك على متن قوافل الجمال. لذلك لم يكن غريبا أن يكون جملَين اثنَين هو القربان الذي قرَّبه التاجران العربيان زيد وعبد الجا ابنا تيم بن هانئ عند افتتاح ميناء يخدم تجارة العرب الأنباط في مدينة بوتيولي الإيطالية قرب نابولي عام 11 ميلادي.