ربما لم يتخيل الزعيم الفلسطيني محمود عباس أن الاتفاق، الذي قام بدور رئيس في صنعه، وراهن على أن يُمهد لحل نهائي لقضية فلسطين، سيبلغ ذروة تداعيه وينهار فعليًا أو يكاد، وعباس نفسه على رأس السلطة التي انبثقت منه.
ولم يكن متصورًا في يناير/كانون الثاني 2005 عندما تولى عباس رئاسة هذه السلطة، خلفًا لياسر عرفات، أن يمتد به العمر (87 عامًا الآن) ويجد نفسه في اختبارٍ صعب ومُر. فقد بات هذا الاتفاق بانتظار من يُطلق عليه رصاصة الرحمة (Coup de Grace). وهذا تعبير مجازي يُستخدم للدلالة على وضع شيء أو حيوان وصل إلى حالة ميؤوس من رجوعها إلى ما كانت عليه. فإما أن يُطلق هو هذه الرصاصة على ما شارك بقوةٍ في صنعه، أو يترك المهمة للطرف الثاني الإسرائيلي، أو يقضي ما بقي في عمره يرقب انهيار الاتفاق، ويُورث من يخلفه الاختيار الصعب ضمن تركةٍ صارت أثقل مما كانت عند توقيع إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، المعروف باتفاق أوسلو الذي تحل ذكراه الثلاثون بعد أيام.
الأرجح، إذن، أن شيئًا من هذا لم يكن في باله أو خاطره عندما وُقع الاتفاق بعد مفاوضاتٍ قبلت القيادة الفلسطينية إبقاءها سرية، رغم تعذر إخفاء حدث بهذا الحجم. فقد تسربت، أو سُربت، معلوماتُ في منتصف عام 1993 أفادت بأن وفدين فلسطيني وإسرائيلي يتفاوضان في أوسلو برعاية نرويجية خالصة. ولم يُطلَع أيُ من "الأشقاء" العرب على تلك المفاوضات، رغم أن لإحدى دولهم تجربة عريضة في التفاوض مع إسرائيل.
يروى أن الرئيس الراحل حسني مبارك لم يبد اهتمامًا بمعرفة تفاصيل ما كان يجري، ورأى أنه ما دام الفلسطينيون سعداء بذلك المسار التفاوضي "فلا داعي لأن نكون ملكيين أكثر من الملك"
ويفسر وزير خارجية مصر حينذاك عمرو موسى في الجزء الأول من مذكراته "كتابِيه" سرية تلك المفاوضات بأن الإسرائيليين أرادوا أن يكونوا وحدهم مع الفلسطينيين الذين لم يمانعوا في ذلك. وهذا تفسير منطقي. ويروي أن الرئيس الراحل حسني مبارك لم يبد اهتمامًا بمعرفة تفاصيل ما كان يجري، ورأى أنه ما دام الفلسطينيون سعداء بذلك المسار التفاوضي "فلا داعي لأن نكون ملكيين أكثر من الملك".
لم يرغب موسى، فيما يبدو، في ذكر ما قاله مبارك حرفيًا، عندما أبلغه بالقلق من عدم وجود معلومات عما يحدث في أوسلو، إذ أعاد صياغة كلام الرئيس الراحل بأسلوبه. فقد سمعتُ من مسؤولٍ مصري كبير سابق أن مبارك قال بطريقته البسيطة المُحبَّبة: "ربنا يهني سعيد بسعيدة". وهذا مثلٌ شعبي شائع يستخدمه المصريون في مواقف حياتية عدة.
لكن الواضح في مذكرات موسى أنه كان قلقًا لعدم التوازن بين الطرفين. ويروي أن المعلومات التي كانت تصله أثارت لديه ملاحظات على أداء المفاوضين الفلسطينيين: "كنت أرى أن هناك أمورًا تحتاج إلى تعديلات قبل قبولها، ونقاطًا لا يمكن الموافقة عليها دون الرجوع للشعب الفلسطيني، إلى جانب عناصر يمكن البناء عليها". ويضيف: "شعرنا بعدم ارتياح عند إطلاعنا على الصيغة الأخيرة لإعلان المبادئ، لأنه غير متوازن ويصب في معظمه في مصلحة إسرائيل". ولعل أهم ما كتبه أنه "لو كانت مصر موجودة على مائدة المفاوضات لم تكن لتقبل بمثل ما انتهى إليه، وكنا سنضغط حتى يخرج اتفاق فيه توازن". ولعل هذا كان تقدير مسؤولين في دول عربية أخرى أيضًا.
حمل الاتفاق، إذن، في طياته بذور فشله. فبعد توقيعه بالأحرف الأولى في أوسلو وإعلانه في 29 أغسطس/آب، لم يبق مجال لأي تعديل يُنصح به. ومع ذلك فعندما احتُفى بالاتفاق لدى توقيعه في حديقة البيت الأبيض في 13 سبتمبر/أيلول، لم يكن متوقعًا أن "شهر العسل" سيكون قصيرًا جدًا، بل أقصر مما توقعه من أدركوا أن الثغرات الخطيرة فيه تحول دون نجاحه.
حمل الاتفاق، إذن، في طياته بذور فشله. فبعد توقيعه بالأحرف الأولى في أوسلو وإعلانه في 29 أغسطس/آب، لم يبق مجال لأي تعديل يُنصح به
صارت معروفةً الثغرات التي قادت إلى فشل الاتفاق. ورغم أن مقدمات هذا الفشل أصبحت أكثر وضوحًا منذ الحصار الذي ضُرب على أول رئيسٍ للسلطة الوطنية الفلسطينية بكل ما كان لديه من مكانة دولية، ثم اتهام إسرائيل ولكن بلا دليلٍ قاطع بأنها تمكنت من تسميمه وهو محاصرُ في مقره برام الله، بقي الأمل مستمرًا في إحراز تقدم. لم يكن لدى السلطة الفلسطينية ومعها قيادة منظمة التحرير سوى الإمساك بهذا الأمل، بعد أن حَرَقت بعض أوراقها، وحُرق بعضها الآخر بفعل تدبير إسرائيلي ما كان له أن ينجح من دون أخطاءٍ فلسطينية أخذت في التفاقم، وبلغ بعضها مستوى الخطايا مثل الانقسام الذي فصل غزة عن الضفة.
وفي الوقت الذي بات فيه ما حدث، وقاد إلى الوضع الراهن، معروفًا بشكل كامل أو جزئي، يبقى سؤالان. أحدهما تختلف الإجابات عنه، فيما تقل أهميته نسبيًا لأنه يتعلق بما مضى، وهو: لماذا قبلت قيادة منظمة التحرير التفاوض السري في غياب حد أدنى من التوازن، والاستغناء عن التشاور مع "أشقاء" كان في إمكانهم مساعدة المفاوض الفلسطيني ونصحه سعيًا إلى اتفاقٍ أكثر توازنًا؟
وسواء كان تغير الوضع الدولي في غير مصلحة منظمة التحرير عقب تفكك الاتحاد السوفياتي السابق، أو ازدياد أزمتها بعد خطأ جسيم ارتكبته قيادتها تجاه الاحتلال العراقي للكويت، أو أسباب أخرى، فقد حدث ما حدث ولا جدوى من استعادته سوى استخلاص دروس منه.
أما السؤال الأهم والمتعلق بالمستقبل فهو: متى يصبح الانهيار الفعلي لاتفاق أوسلو رسميًا، ومن يُطلق رصاصة الرحمة عليه؟ الأكيد أن عباس لن يفعلها ليس بسبب تكوينه وتاريخه فقط، ولكن لأن لكبار رجال السلطة وموظفيها مصلحةً في استمراره، فضلاً عن خطر الذهاب إلى مجهولٍ قد يكون أسوأ. وربما الأكيد أيضًا أن إسرائيل لن تأخذ هذه المبادرة، سواء لأنها تستفيد من التنسيق الأمني مع السلطة، وتخسر عندما يضعف فتضطر إلى زيادة عملياتها في الضفة، أو لكي لا تتحمل المسؤولية عن "دفن" الاتفاق أمام المجتمع الدولي.
ولهذا، فالأرجح أن يؤول مصير الاتفاق والسلطة إلى من سيخلف عباس في ظروف لا يُتوقع أن تكون أفضل مما هي اليوم بعد 30 عامًا.