تستند الدول الحديثة على ماضيها من خلال المدينة القديمة بداخلها، ونلاحظ خلال العقود الماضية، كيف قامت معظم هذه الدول المعاصرة والمنفتحة على المستقبل، وباختلاف ثقافاتها على خريطة الأرض، بالاهتمام بمدنها القديمة وترميمها، ولا أعني تلك المدن الغارقة في القدم ولا الأثرية منها، بل التي عاش فيها الأجداد من قرن إلى قرنين أو حتى ثلاثة، لتلقى الاهتمام، وتغدو متاحة لأهلها والغرباء والسواح، وهي مدينة تتوسّط المدينة الحديثة، أو تقع في قلبها، وأحيانا على أطرافها... لتبدو متحفا مفتوحا يمثل الوجود الإنساني الآني بتاريخه الممتد في كل حالاته المختلفة من التكوين إلى الانتهاء مع من السابق، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين يجهلون السابق المبهم هذا، ويرغبون بملء الفجوات بين الماضي والحاضر، لتصبح زيارة المدينة القديمة، انفتاحا للزائر على أسلوب اتفق عليه الجميع، وهو فن عيش الذين عاشوا قبلهم.
وإذ شهدنا على امتداد السنوات الأخيرة وعلى مستوى العالم، كيف فُقدت الروابط الثقافية بين الأبناء وأسلافهم، وكيف عانى البعض من فقد اللغة وصعوبة التواصل داخل الأسرة الواحدة، أو بين أجيال متقاربة، وأيضا معاناة الفجوة التقنية والرقمية، والتغيير السلوكي والأخلاقي، فقد أصبح إحياء المدن القديمة من أذكى ما قامت به الحكومات المثقفة، فلا كمال للفراغ الروحي والتواصل الاجتماعي المضطرب سوى من خلال معرفة فن المدن الآفلة، للانطلاق منها الى المستقبل بشكل منسجم ثقافيا وروحيا.
بالتالي، وبمجرد إحياء أحيائهم بعد رحيلهم، سوف يتضح وبشكل جليّ لمن يزورها، مستوى الفن في عمرانهم، فأغلب هذه المدن القديمة مدن مثالية، نرى فيها فن الانسجام بين أزقتها الطينية، أو المساحة المدروسة للجدران الحجرية العالية، والاتجاهات المنطقية للمارة أمام النوافذ الخشبية، إلى قياس المسافات الروحية مع دور العبادة، والمباني المتآلفة بزوايا متوافقة مع السلوك الاجتماعي، إلى السوق والمغانم الاقتصادية، حتى تصل خارج الحيّ أو المدينة القديمة وانت تشعر بتناغم جمالي مستمر، وكأن الفن وسيلة رئيسة استعملها الإنسان السابق لإثارة المشاعر والعواطف وفهم العيش بالمكان. ومن يختبر هذا الفن الذي تحمله المدن القديمة في جوهرها، يجد فن العيش بقي مع الذاكرة المتعلقة بفن الذوق المرتبط بالتشييد، وكأن تلك البيوت تأسست بمخيلة إبداعية جماعية لخدمة المجتمع، ليبقى فنا ذا قيمة فعلية.
كأن الفن وسيلة استعملها الإنسان لإثارة المشاعر والعواطف وفهم العيش بالمكان، ومن يختبر الفن الذي تحمله المدن القديمة في جوهرها، يجد فن العيش بقي مع الذاكرة
فماذا فعلنا اليوم يا ترى بهذا النوع من الفن في جوانب مدننا الحديثة؟ وهل هذا الفن قائم في الأصل؟ أم أن فن اليوم تحول سلعة، لتصبح مدينة اليوم مستودعا للمنتجات الفنية الحديثة، ونحن نعلم أن المدينة في جذورها ليست مستودعا، فحقيقتها أنها مدينة تفضل التعايش مع الفن بفلسفته وحريته وتصوفه وأغراضه وقيمه، الفن في حد ذاته، وبصورة فطرية.
أما الأمر الآخر وهو إيجابي، فأثناء زيارة المدن القديمة، وإن أصبحت سياحية، فإنها تلقي بكامل تاريخها أمام أنظار الزائر، سواء السائح أو ابن المكان، برؤيةٍ استرجاعيةٍ (اجتماعيا واقتصاديا وعمرانيا...)، ليتدفق كل شيء دون شرح، بأن التاريخ متسلسل ومتكرر، والتغيير المستمر هو تمثيلي ليس إلا، وبأن نقطة البداية كنقطة النهاية، مرورا بمدى ما جرى لتلك المباني من تغييرات، فالتغيير جوهر وإيقاع وحقيقة فنية، وصولا إلى كيف كانت المدينة القديمة منتجة أو مستهلكة أو مستعمَرة، وما مدى القيد والحرية بحقيقتهما لا بشكلهما الزائف، والمقارنة مع المدينة الحالية، سواء كانت منتجة أو قائمة على الاستهلاك.
لمن يزور مثلا مدينة العُلا الطينية القديمة المهجورة، تلك التي تشبه المتاهة، نجدها أشبه بهندسة من الخيلاء، صممت بفطرة وعفوية دون تكلف، على الرغم من أنها اليوم أصبحت مصدر حيرة للأجيال الجديدة، متسائلين كيف كان أهلنا يعيشون في تلك المتاهة بين الأزقة والجدران؟ ولأن الحكومة ترغب في ترميمها أحضرت الخبراء، والخبراء بدورهم أحضروا كبار السن من الذين لحقوا بالعيش فيها، فاتضحت الرؤية المفقودة، بأن كل تلك الجدران الملتصقة ببعضها هي متاهة منتظمة، ومتآلفة، وشاعرية بعناية المعنى بين كل تلك البيوت اللصيقة.
هناك أيضا خان الخليلي في مصر، هوية مصر الأصيلة من الحارة والحركة والرائحة والصوت بين أزقتها، إلى منطقة الشندغة والفهيدي بدبي، إلى حي لوماريه القديم بباريس.
من يزر المدن القديمة في العالم بأكمله يجدها معزّزة فطريا للفن، ولا أعني الفن كمنتج في حد ذاته، بقدر ما هو معيش حتى في المأكل والمشرب، وينتبه إلى مدى التغيرات والمفاهيم التي طرأت على معنى هذا الفن لدى الناس في تعاملاتهم اليومية، لتبقى المدينة المثالية في أصلها أكثر من مجرد نموذج، بل وحدة متكاملة في جوهرها.